حب بالتواطؤ

قال له صديقه المدمن ذات يوم، إن غاية المرء في الحياة هي أن يُحبُّ!

سمع النصيحة وضحك منها، فقد كان قلبه ما يزال أخضر، ويحتمل طعنات عديدة، أكثر مما يعتقده صديقه الباحث عن عقب سيكارة بين إغفاءة وأخرى.

اضافة اعلان

في حياة لاحقة، أحبّ كثيرات. سأل نفسه مرارا عمّن تكون أحبّته منهنّ!

في حياة لاحقة جدا، أحب أخريات، كان متأكدا، بالخبرة والتجربة، أنهنّ أحببنه جميعهنّ. وحين استسلم لغواية الفكرة، أحبّ واحدة فقط .. واحدة فقط رآها في جميع خطواته، وأقسم لصديقه، الغائب حينها، أنها أحبته بكل ما تمتلكه الأنثى من عنفوان وتصميم وتأكيد.

أحبها، بكل ما فيه من حياة آيلة للسعادة، ولم ينتبه إلى أن كل ما أرادته منه هو هيكل آدمي، تشكله على صورة قديمة ما تزال تحتفظ بها في ذاكرة لم تمت بعد.

لم ينتبه في خضمّ المشاعر الدافقة إلى أن ثمة مؤامرة كاملة في طريقها إلى التشكّل؛ انتقت له كل قمصانه وبناطيله، واستبعدت جميع الألوان التي لا تريدها. ربطات العنق رفضت أن يكون له رأي فيها، والملابس الرسمية كانت تمتلك لها وصفةً جاهزة من حياة سابقة اختبرتها.

ذهبت به إلى الكوافير، وفيما هي واضعة إصبعها فوق جبينها تفكر في الصورة القديمة التي انطبعت في ذاكرتها، كانت تملي على الحلاق المسكين من أين يبدأ بمقصه في الشعر.. وأين ينتهي.

الأحذية، والبدلات الرسمية، وملابس السباحة والسهر والنوم والعطور، وماركات ماكينات الحلاقة، كانت تمتلك لجميعها مواصفات خاصة من زمن ماضٍ، وكانت تريد أن تستعيد ذلك الزمن من خلاله.

المسكين، تواطأ مع رغباتها حتى النهاية، حتى أنه حاول أن يكون طبيبا لإكمال الصورة المرسومة في مخيلتها، استقصاء لأبعد الحدود في إرضائها، غير أنه تذكر أن شهادة الخامس الابتدائية لا تسعفه في هذا الأمر!

فكّر في أن يصبح مصورا فوتوغرافيا محترفا، يجوب باريس وروما وسائر العواصم الأوروبية ليبعث لها من هناك آخر ما اصطادته عدسته من عجائب.. غير أنه اصطدم بأميته البصرية المطلقة، فعدل عن الفكرة.

أراد أن يمنحها كل ما يقدر عليه لعلّها تنتبه إلى وجوده الفعلي، وليس إلى وجوده قريب الشبه من آخر تشتاق دائما لذكراه!

في سرّه، لعن ملامحه كل يوم. تمنى لو أن الطبيعة منحته ملامح مختلفة عن ذلك الذي ما يزال يقارن نفسه به.. وما تزال هي تقارنه به كل لحظة.

فتّش عن رقم هاتف صاحبه المدمن صاحب الحكمة الأزلية، حين أخبره أن غاية الإنسان في الوجود هي أن يحبّ .. لكن من دون جدوى.

لم يكن يريد منه شيئا معينا. كان يريد أن يعتذر له عن عدم نضجه حينها، وكيف أنه اعتقد أن الكلام يصدر عن "سكران" لا يعي مما يقوله شيئا.

كان يريد أن يعترف له أن مهند التركي أو العربي حتى، لم يبقيا لسواهما شيئا، وأن ذاكرة الأنثى تحتفظ بحبيب واحد فقط، ولن تجرؤ على نسيانه مهما كانت الأسباب.

كان يريد أن يقول له إن الأيام تجترّ بعضها بعضا، وأن الأماكن تصبح متشابهة لدرجة أن السرير يصبح صنوا للشارع، والوسائد شقيقة للحجارة.

كان يريد أن يعترف له بخطئه الفادح، حين اعتقد أن قلب الأنثى ينسى حبّا تمرّغ فيه طويلا، ليستسلم لآخر يمنح وعدا جديدا بحياة أخرى مبهمة.

كان يريد أن يعترف بتفاهته وغبائه وصغره.. وأن يقول إن الحياة ما تزال على عهده بها؛ كاذبة وغادرة وصغيرة. كان يريد أن يقول له إنه لم يخسر شيئا ذا بال.. كل ما خسره هو حياة كاملة.. لا غير.

[email protected]