حب وواجب عزاء

لست واثقا من قدرتي على الحب في هذا العام الكئيب، إن استمر معدل الموت في سورية 200 عاشق في النهار، ولم أعد متأكدا من إمكانية أن أنهض لمزاولة الحياة، وهي منذ العام الماضي تهمة تستدعي المثول أمام "النائب العام" في مصر. سأعتذر لك إذن عن كل الشوق الزائد للقائك، وعن جميع الوعود التي كانت صادقة، ولا تؤدي إلى النار. رغم ذلك سأكون، يا حبيبتي، صريحا معك، وأقول إن عواطفي منصرفة الآن نحو "السياق العام": هي الآن تقوم بواجبها في خيمة مزدحمة بالبكاء؛ ففي زمن الموت يقتصر الحبّ على واجب العزاء!اضافة اعلان
كنت أريد كتابة قصيدة لك، عن عينيك العسليتين، وشفتيك العسليتين، وقلبك البريء مثل رسالة حب أولى؛ لكنني توقفت في منتصف الكلام، لأن نشرة الأخبار لم تنته منذ أن بدأت الحرب التي ليس لها نهاية، ولم تكف عن تكديس الموت في علب من حجم المائة قتيل في كل موجز يوجز أحداث "الساعة الأخيرة"؛ وكل ما أحتاجه هو دقيقتان أو الزمن الكافي لقراءة الفاتحة بخشوع لا يجزع من "الموت بأثر رجعي"، لأتم القصيدة التي أنوي ختامها بتعداد ما تبقى على الأرض، مما كان يستحق الحياة: مثل عينيك اللتين لم يغير الحداد لونهما، وشفتيك اللتين لم ينل ملح الدمع من مذاقهما!
وكنت أريد هذه الليلة الغناء لك مما أحفظه من مطوّلات "عبد الحليم حافظ"، أو الاستماع بروح شديدة الخفة إلى "أم كلثوم"؛ لكن "صوت المعركة" كان أعلى، والرصاص كان يصل لأبعد من "عمري" حين يكون العمر "أنت"، ولكن المذياع أيضا كف عن "الغناء المباح"، واقتصر بثه المتواصل على بث الاختلاف إن كان الاستماع إلى "قارئة الفنجان" حلالا أم حراما، فالمذيع التقي حسم الجدل بأحكامه التي لا تقبل الاجتهاد، لأن الغناء وقراءة الغيب معا "حرام في حرام"!
تسألُني الفتاة التي في الثلاثين: إذا استمرت الحرب ثلاثين عاماً أخرى، هل يهرم الشوق كما هرمنا؟! ولأنني في الثلاثين أيضا أجبتها بما لست أعرف، وقلت نقلاً عن شاعر موثوق:"إن الشوق كالقصيدة العربية لا يهرم ولا يفسد"، وحبيبتي التي يبدو أنها الآن لم تعد في الثلاثين سألتني مجردة من المكر:"ومتى ستكتبُ القصيدة"؟! ولأنني على ما يبدو أيضا لم أعد في الثلاثين أجبتها بما أعرف:"سأخبرك إن لم يتعذر مجيء النهار"!
بيني وبينكِ الآن ثلاثون عاماً من الحرب التي بدأت ببيان يحمل الرقم "واحد". ولست واثقا من قدرتي على الوصول إليك، فبيننا أيضا أرض واسعة يقال إن فيها مقبرتين جماعيتين، واحدة لمن ماتوا مؤمنين من وجهة نظر القاتل، وثانية لمن ماتوا مؤمنين من وجهة نظر القاتل الآخر، ولست أدري على أي إيمان سيموت الشوق الذي ما يزالُ بيننا!
متر واحد يفصلني عن عينيك العسليتين، وبلد أو بلدان، أو ما لست أعد من الأسلاك غير المسالمة، ونقاط التفتيش الإسمنتية، ومقبرتان جماعيتان، ومكتب لـ "النائب عام"، ثم أصل إليك على فرس قوقازي إن توافق إيماني مع الجندي الذي أمام الحدود، وإن تفهم اختلاف إيماني الجندي الذي وراء الحدود؛ متر واحد يا حبيبتي وتتقلص الحرب إلى ذكرى على بعد ثلاثين عاماً!