حتى في حرب لبنان أرادوا "استغلال الفرص"

هآرتس

يغئال عيلام

صحفيون ومؤرخون يكثرون من الحديث عن فرصة تاريخية. بين فينة واخرى تسمع ايضا اصوات سياسيين ورؤساء دول يريدون الدفع قدما وتطبيق اجندة سياسية أو ايديولوجية يوجد لها سيطرة على الجمهور، لكنها مختلف عليها ومليئة بالشكوك. عندها، في مناسبة معينة هم يستلون الكلمة السحرية "فرصة تاريخية" من اجل ترجيح الكفة في النقاش العام وتمهيد الارض لخطوة سياسية أو عسكرية مشكوك فيها. مثال واقعي على ذلك نجده في النقاش العام الذي جرى حول خطة الرئيس الاميركي دونالد ترامب والتي تشمل مواقف اميركية على ضم 30 % من اراضي الضفة الغربية. هذه الخطة تم تبنيها بشكل متحمس من قبل حكومة اليمين لنتنياهو وبني غانتس، وهي توصف بالفرصة التاريخية التي لن تتكرر، والتي لم يكن مثلها في تاريخ شعب اسرائيل والصهيونية.اضافة اعلان
ولكن الحديث عن فرصة تاريخية هو دائما حديث فارغ. يستخدمون شعار "فرصة تاريخية" قبل كل شيء من اجل تبرير استخدام القوة أو استخدام قوة الطرف الذي يحظى بأفضلية في القوة. ولكن في الواقع التاريخي المعقد في كل نزاع وفي أي وقت فان أي طرف لا يستطيع أن يثق بأفضلية القوة المطلقة.
في الواقع يوجد ائتلافات لقوى اساس وجودها دائما هو الحاجة للدفاع ازاء جهة تدميرية. وفي مواجهة قوة كهذه فان النصر هو الى جانب الائتلافات الكبرى. ائتلاف دول اوروبا بقيادة بريطانيا هو الذي هزم نابليون في نهاية الامر. والائتلاف الكبير لدول الغرب والاتحاد السوفييتي هو الذي هزم هتلر.
ائتلافات القوة لا تخلق بالاكراه والصمغ الذي يربطها هو قبل كل شيء المصلحة في منع سيطرة قوة فظة واستبدادية على جميع الآخرين في المنطقة. ولكنها لا تستطيع أن تتأسس على رؤية القوة فقط، بل العكس، على رؤية قيمية من الوجود المشترك، وعلى ضمانة متبادلة وعلى قواعد سلوك تحدد درجة الشرعية في استخدام القوة. هذه الامور اتضحت في العهد القديم. روما بنت في حينه قوتها على اساس استعدادها للوقوف دائما على رأس ائتلاف من مدن – دول مهددة، التي توجهت اليها لطلب المساعدة من اجل صد محاولة سيطرة قوة بلطجية، محلية أو اجنبية. التوجه لروما تم لأنها تبنت مبدأ يقول بأنها لن تبادر في أي يوم الى حرب احتلال، لكن في نفس الوقت هي ستصد كل مصدر عدواني يحاول السيطرة على الفضاء الموجود فيما حولها.
انجلترا في العصر الحديث بنت قوتها على مبدأ مشابه، عندما بعد حرب المائة العام مع فرنسا في القرن الخامس عشر، أخذ الانجليز على عاتقهم الخط الذي يقول بأن انجلترا لن تشن في يوم من الايام حرب احتلال في اوروبا، لكنها ايضا لن تسمح لأي جهة اخرى بالسيطرة بالقوة على اوروبا. النتيجة المحتمة كانت أن انجلترا تحولت الى زعيمة كل الائتلافات التي صدت محاولات السيطرة على اوروبا، سواء من جانب الفرنسيين في القرن الثامن عشر والتاسع عشر أو من جانب الالمان في القرن العشرين.
إن محاولة مقارنة الفرصة التاريخية بتطبيق سياسة القوة هي دائما أمر كاذب يؤدي الى الفشل. وهي قائمة على تقليص أفق التطور المحتمل من خلال تجاهل العوامل الاخرى المتداخلة في أي مواجهة للقوة، والتي يوجد فيها ما من شأنه أن يحسم مصير المعركة، أو على الاقل أن يؤثر عميقا على نتائجها. اضافة الى ذلك، هي تميل دائما الى تقييم خاطئ لعلاقات القوة.
في النقاش الذي جرى في القيادة الصهيونية بعد نشر الكتاب الابيض في 1939، هل يجب البدء بنضال عنيف ضد سياسة بريطانيا الجديدة، قال دافيد بن غوريون وبحق بأنه يجب عدم تقدير احتمالات الصراع حسب علاقات القوة البسيطة والعلنية بين بريطانيا العظمى وبين الصهيونية والاستيطان اليهودي، بل حسب السؤال كم ستكون الصهيونية مستعدة للاستثمار في هذا الصراع، الذي هو صراع على بؤبؤ عينها، وكم ستكون بريطانيا مستعدة للاستثمار في صراع على موضوع هو من ناحيتها هامشي ولا يعرض مستقبلها للخطر.
بالطبع لم يكن أي أحد قادر على أن يضمن بأنه يقدر بصورة صحيحة درجة الاهمية التي توليها بريطانيا، ليس فقط لسيطرتها المحددة على ارض اسرائيل، بل لمجمل مصالحها وعلاقاتها في الشرق الاوسط العربي والاسلامي، وكذلك لمكانتها الدولية. بن غوريون افترض على سبيل المثال بأن البريطانيين لن يتجرؤوا على استخدام قوة مباشرة لقمع حركة التمرد العبري، لهذا فان الضربة التي وجهها البريطانيون لليشوف في يوم "السبت الاسود" في حزيران 1946 شلتها تماما وأدت الى وقف فوري للنضال العنيف والى نقل أساس الجهد الصهيوني الى الخطوط السياسية.
مسألة علاقات القوة حسب النموذج الذي طرحه بن غوريون وضعت تحت اختبار صارم في حرب فيتنام في ستينيات القرن الماضي. في هذه الحرب قتل اكثر من مليون جندي من شمال فيتنام ونحو 2 مليون مدني مقابل ما يقارب 60 ألف جندي اميركي. ولكن الجمهور الاميركي لم يكن مستعدا لتحمل هذه الخسائر في حرب ليست على الوطن، ومن البداية كانت حرب مختلف عليها. المعارضة الداخلية ازدادت وفي نهاية المطاف اجبرت الادارة الاميركية على التراجع ومغادرة الساحة.
اسرائيل وجدت نفسها في وضع مشابه في حرب لبنان الاولى. هذه الحرب بدأت في 1982 بالتطلع الى استغلال "فرصة تاريخية" للقضاء على التنظيمات الفلسطينية المقاومة التي تحصنت في لبنان، واقامة نظام جديد في لبنان تحت سيطرة الاقلية المسيحية. هذه العملية التي تمت المبادرة اليها سرعان ما تعقدت وحبست الجيش الاسرائيلي في قطاع امني ضيق في جنوب لبنان من العام 1985 حتى العام 2000. في بداية العملية شهدت اسرائيل نجاحا عندما أخرجت منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان؛ لكن مكان التنظيمات الفلسطينية احتلته منظمة المقاومة المحلية الجديدة حزب الله، التي تبين مع مرور الوقت بأنها تشكل مصدر ازعاج وتهديد أكثر خطورة من منظمة التحرير الفلسطينية وفي الرأي العام الاسرائيلي الذي في البداية دعم بحماسة عملية سلامة الجليل التي بدأت بها حرب لبنان، تغير المزاج العام الى خيبة أمل ومعارضة متزايدة لاستمرار وجود الجيش الاسرائيلي في لبنان، بالاساس ازاء عدد الخسائر الذي تسببت به هذه المغامرة.
الفشل الذريع الذي يسمى حرب لبنان الاولى مثل بصورة واضحة الى أي درجة مفهوم "الفرصة التاريخية" هو مفهوم فارغ. التاريخ مبني من تطورات وعمليات، التي في معظمها تتكون من احداث مرتبطة ببعضها، من خلال منطق التطور التاريخي. قليلة هي العمليات المبادر اليها التي تشذ عن الخط، ومنها يسمع بشكل عام الاعلان عن الفرصة التاريخية. ولكن العملية التي لا تستطيع معرفة ماذا ستكون نتائجها لا يمكن اعتبارها فرصة، بالأحرى عملية مثل الضم المبادر اليه في اراضي الضفة، الذي كل نتائجه في المدى المنظور وبعده ستكون نتائج كارثية من ناحية اسرائيل والمجتمع الاسرائيلي.