"حتى يغيّروا ما بأنفسهم" (2)

أ. د. محمد خازر المجالي

تحدثت في المقال السابق عن التغيير الإيجابي المفهوم من قوله تعالى: "... إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ..." (الرعد، الآية 11)؛ فلا بد من نية التغيير، وهمة الانطلاق، ووضوح الرؤية، وحسن التوكل، على مستوى الفرد والمجتمع، إذ إن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة، والنصر لا يأتي من دون كد وتعب وصبر، ونيل المعالي ليس بالتمني، ولا بد دون الشهد من إبر النحل.اضافة اعلان
وأتحدث هنا عن التغيير السلبي، فهي سنة الله تعالى أيضا أنه لا يغير ما بقوم من نعمة إلى نقمة حتى يغيروا ما بأنفسهم؛ فالأيام دُوَل، وتنكّب الطريق القويم لا شك سيقود إلى مهلكة. ولعل تكملة تلك الآية تنبئ عن مصير الأقوام المفسدين حين يقول الله تعالى: "... وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ" (الرعد، الآية 11). ولعل ورود لفظة "قوم" هنا ذات دلالات، منها أهمية الشعور بالمجتمع كله، وأن لا يعيش أحدنا لنفسه فقط، بل يهمه أمر مجتمعه وأمته. فالمسلم ليس أنانيا منكبا على نفسه فحسب، بل تهمه أمته ووطنه. ولا يعني هذا أن لا يبدأ أحدنا بنفسه، فمنطق الأشياء يستدعي هذا، ولكن لا بد من شعور المسؤولية العام.
ومن الدلالات أيضا أن الأخطاء الفردية ربما تقود إلى دمار القوم والمجتمع إن انتشرت واستهين بها، أي حين تنتشر وتصبح ظاهرة، ولا يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يأبه الناس بها. فهنا قد تكون هذه مجلبة لسخط الله وعذابه، فالقوم هنا جاهروا بمعصيتهم وعداوتهم لله، ومن له حيلة بحرب الله؟!
إنها مسؤولية الجميع؛ مسؤولين ومنظمات مجتمع مدني وعلماء ومفكرين ومؤسسات، فسنن الله لا تتبدل ولا تتخلف ولا تحابي أحدا. ولا ينفع أن نقول إننا مسلمون، بل لا بد أن يوافق القولُ الحالَ؛ لا بد أن يكون باطننا كظاهرنا، أن نقيم شرع الله ونعبده كما أمر ولا نشرك به شيئا، هو خالقنا ورازقنا، وهو الذي بين لماذا خلقنا: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ" (الذاريات، الآيات 56-58)؛ فهو غني عنا وعن عبادتنا، لكنها حكمته سبحانه أن يبتلينا بعبادته وحده، والثقة به وحده، ومن ثم الفوز بجنته والنجاة من عذابه، في حياة دائمة خالدة.
تختلط صورة البناء السليم على بعض الناس. والحقيقة أنها صورة المجتمع الموحِّد المنطلق في هذه الأرض بثقة من أجل سعادة الإنسان، حضارة وتقدما وحرية وكرامة. وكلها معان بينها الله تعالى في كتابه، وطبقها النبي صلى الله عليه وسلم في مسيرته، وسار على هديها صحابته رضوان الله عليهم أجمعين. وما عرفنا الأمة في تاريخها إلا صاحبة حضارة وقوة وعزة. صحيح أنه مرت عليها أزمان من التردي والتفتت والاحتلال، تارة على أيدي الصليبيين وأخرى على يد التتار، وما جرى في الاستعمار الحديث، وما نحياه حتى يومنا هذا من تشرذم وتبعية خطيرة وشلل إرادة، لكن أسباب هذا كلها معروفة، حين غيرنا ما بأنفسنا نحو الأسوأ.
من أخطر أمراضنا تشتت ولائنا، وأن لا نجعله لله ورسوله والمؤمنين. ومنها الإعراض عن شرع الله والاستهزاء به والثقة بمناهج البشر: "أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ" (المائدة، الآية 50). ومنها السماح للذنوب والمعاصي أن تنتشر، ولو بقيت على الصعيد الشخصي فهذا ضرره شخصي، أما حين تنتشر ولا يتم النصح بشأنها، فهي علامة واضحة على تردي المجتمع ورضاه بغضب الله، وحينها لا نأمن مكر الله تعالى.
نريد مجتمع الأحرار الذي ينعتق من ذل العبودية لغير الله؛ فمجتمع الأحرار هو الذي ينتمي لربه ووطنه وأمته، هو الذي يبني الحضارة، ويرتقي بالإنسان والقيم، ويحمي الأوطان. ولا يمكن لمجتمع العبيد أن يحمي حتى أسياده، فهو مجتمع لا يفكر إلا بنفسه وشهواته، فكيف يحمي وطنه أو يفكر حتى بالتضحية من أجل بناء أو نهضة؟! هو أدنى حتى من أن يفكر بشيء خارج نطاق نفسه، أناني ضيق الأفق، فمن رضي العبودية لغير الله فهو ذليل عبد لشهواته وأسياده المخلوقين، وشتان بين من تعلق بالخالق ومن تعلق بالمخلوق أنى كان.
ستكتشف مؤسسات كثيرة أنها تبني مجتمع العبيد لا مجتمع الأحرار، لا يريدون من يعترض على خطأ، وربما يصنَّف هؤلاء على أنهم ضد ولائهم وانتمائهم لأوطانهم، وما علم هؤلاء أن كرامة الإنسان في حريته، واتباعه لربه. صحيح أنه لا بد من نظام حياة ومرجعية وإلا كانت الفوضى، ولكن لا بد من شعور أننا جميعا شركاء في المسؤولية.
هناك ضمانات ذكرها الله تعالى لسِلم المجتمعات واستقرارها، منها وجود النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الله توفاه. ومنها الاستغفار: "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ" (الأنفال، الآية 33)، ولكنه ليس أي استغفار. ومنها الإصلاح: "وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ" (هود، الآية 117). ونلحظ أنه تعالى ذكر "مصلحون" وليس "صالحون"؛ فالإصلاح يتعدى النفس إلى المجتمع، فهي مسؤولية ينبغي أن نرعاها لا أن نحجمها ونضيق عليها.
لقد قص الله علينا قصص أقوام أخذهم الله بذنوبهم، هؤلاء بفاحشة الشذوذ حيث نموذج الفساد الأخلاقي، وأولئك ببخس الموازين حيث نموذج الفساد الاقتصادي، وغيرهم بالتكبر والظلم حيث فساد النفوس واستعباد البشر... وهكذا، يجمعهم الصد عن سبيل الله تعالى والظلم، حين وضعوا الأشياء في غير موضعها الصحيح، وصدق الله العظيم: "وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا" (الكهف، الآية 59).
لننتبه أن لا نرى الخطأ ونسكت عليه، ولنتقدم خطوة باتجاه مجتمع الأحرار، وأن نرتقي بأنفسنا وأوطاننا وأمتنا. ولو كان مَن حولنا من أصحاب النفوس الدنيئة، فإياك ومخالطتهم كي لا تكون منهم في يوم من الأيام.