حرب ضد طواحين جون كيري

كأنه لا مفر من الاتكاء على دونكيشوت، بطل رواية طواحين الهواء الشهيرة، للخوض في غمار السجال الجاري حول خطة وزير الخارجية الأميركي جون كيري، والإدلاء بدلو صغير في قعر ماء هذه البئر المالحة؛ لعل استعارة الاسم الرمزي لصعلوك إسباني تقمص شخصية أحد فرسان القرون الوسطى، وخاض معركة هاذية ضد طواحين الهواء، تساعد في تقريب الصورة إلى الأذهان، وتشخص جوهر الحرب الكلامية المشتعلة في الأردن وفلسطين معاً، ضد خطة كيري الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية.
ومع أن وزير الخارجية الاميركي، الذي يواصل جهوداً دبلوماسية حثيثة ومزعجة لكل الأطراف، لصياغة مثل هذه الخطة، لم يقل أنه قد توصل اليها حتى الآن، بل وقد لا يتوصل إليها في المدى المنظور، إلا أن رهطاً من "الدونكيشوتيين" الجدد، شرعوا في البناء على الشيء قبل مقتضاه، وراحوا يشنون معركة لا تبقي ولا تذر، ضد طواحين هواء تحاكي تلك التي شاهدها دونكيشوت لأول مرة في حياته، واعتقد أنها شياطين ذات أذرع طويلة، تتحدى نبالته وتدعوه إلى المواجهة.
ولعل دونكيشوت الساذج كان أكثر رشداً من خلفائه الآن. فقد كان ذلك الفارس المفعم بحسن النية، يعتقد واهماً أنه بصدد أذرع شيطانية شريرة تستوجب الحرب لتخليص الإنسانية من آثامها. أما خلفاؤه في هذه الآونة، فهم يختلقون الشيطان بأنفسهم، ثم يعيدون خلقه على صورة تناسب عدتهم الكلامية التي تغرف من قاموس لغة مستهلكة، وتواتي تسويغ ذرائع جوانية ملتبسة، أساسها البحث عن شعبوية تقادمت، واسترداد حضور كان مجيداً، وإن كانت تبررها بعض الهواجس المشروعة.
ولحسن الحظ، فإن الشعوب العربية منهمكة الآن في عدد وافر من همومها الداخلية، وأن فضائياتها مشغولة إلى آخر المدى بفيض من الوقائع الموجعة في مصر وسورية والعراق وليبيا واليمن وغيرها؛ وإلا لكانت الساحة أرحب، والمتعاركون على الشاشات وفي المنابر أكثر، ولما بقي السجال محصوراً في هذه الرقعة الصغيرة، التي تتناوب نخبها السياسية والفكرية، إلى جانب أحزابها العتيقة وقواها الاجتماعية المستحدثة، على دس مزيد من الحطب غير الجاف في موقد نار انطفأت جمراته المتوهجة.
وأحسب أن لسان حال المتعاركين على جلد دب لم يتم اصطياده بعد، يقول إن أفضل الممكنات المتاحة للتعاطي مع القضية الفلسطينية، هو تركها على حالها لآلة الزمن كي تواصل فعلها المعروف سلفاً، وأن الصبر على نار الاحتلال أرحم من التداول مع أي مخرج محتمل لكبح غوله الاستيطاني الذي لا يشبع. وبالتالي، فإن المخاطر من تحريك حجر من مكانه، أشد وطأة من بقائه على الصدر إلى أجل غير معلوم، على قاعدة أن ما نعلمه خير مما نجهله، وأن أهون الضررين ضرر بقاء الاحتلال إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
وعليه، تبدو المعركة حول خطة كيري التي لا وجود لها حتى اليوم، معركة مفتعلة، حتى لا نقول إنها تجري قبل أن يحين أوانها. وفوق ذلك، هي معركة مجانية، تُشعل حرائق جانبية لا طائل من ورائها، وتُستخدم فيها أوراق لعب خاسرة سلفاً. فمن ذا الذي يستطيع -إن هو أراد اصلاً- أن يوقّع على إنهاء نزاع تاريخي مديد لقاء دولة بلا سيادة، وبلا قدس، تغص بالمستوطنين ومعسكرات المحتلين، وتقتضي التنازلات عن حق العودة لملايين من الناس، لدى كل واحد منهم حق شخصي لا يملك أي مسؤول تفويضاً بإهداره؟!
خلاصة القول، ومن آخر الكلام لا من بدايته، لا أحسب أن العرب، على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم، هم الذين سيتولون تقويض خطة كيري إذا تضمنت أدنى الحد الأدنى مما يمكن لهم قبوله. فالطرف القادر وحده على إفشال أي خطة تقتلع مستوطناً واحداً من موقعه، أو تعيد لاجئاً إلى بيته، أو تزحزح جدار الفصل العنصري من مكانه، هي إسرائيل التي تتفاوض مع نفسها، ولا تلقي بالاً لغضب من تعودوا على تدليلها. الأمر الذي لا يستحق إثارة مزيد من الزوابع في الفناجين، وشن معارك عرمرمية ضد ما يشبه تلك الطواحين القديمة.

اضافة اعلان

 

issa_alshuibi@