حرمان الأبناء من الأمان العاطفي.. مخاطر يدفعون ثمنها مستقبلا

منى أبو حمور بحثا عن الأمان النفسي والعاطفي؛ أخذت ليلى على عاتقها قرار البحث عمّن يعوضها عن لحظات الأمان التي خلت منها حياتها، فقد بحثت مطولا عمن يمنحها أمان النفس والقلب، وأمان الأسرة الذي فقدته بعد وفاة والدتها. “ذهب الأمان مع أمي وأصبحت أبحث عنه في كل مكان حتى في مقتنياتها الخاصة، فقدت الأمل وشعرت بالوحدة وذهبت بخوفي خارج أسوار المنزل”، ما دفعها لاتخاذ قرار الزواج رغم أنها ما زالت في السنة الدراسية الأولى، الأمر الذي فاجأ جميع من حولها. الفوضى العارمة التي تسكن في نفس ليلى التي فقدت والدتها وهي في الثامنة من عمرها وغياب شعور الأمان الحقيقي والسند والصديق بحسب وصفها، جعلها تبحث بلهفة عمن يرمم تلك الندوب التي تركها غياب والدتها وزواج والدها، لتكبر في بيت يغيب عنه الحنان والدفء واستقر فيه الكثير من المشاكل العائلية. ليث هو الآخر لم ينتظر حتى يتمكن من أخذ النسخة المصدقة من الشهادة الجامعية، حجز تذكرة سفر متوجها إلى إحدى الدول الخليجية، ململما أحزانه وخيبات أمله المتكررة، وباحثا عن فرصة عمل وأمنيات بأن يتحقق الأمان النفسي الذي فقده منذ وفاة والديه تباعا. ظروف نفسية صعبة عاشها ليث حسان منذ وفاة والديه وفقد الاستقرار النفسي وغاب شعور الاستقرار العائلي، متأثرا بالكثير من المشاكل العائلية في بيت العائلة الكبير وأقاربه، ما دفعه للتفكير في الهروب والبحث عن الأمان العقلي والنفسي بعيدا عن كل ما يحيط به. يقول ليث “ما دفعني للسفر والبحث عن الأمان بعيدا تلك الغربة التي أعيشها في المنزل”، لافتا إلى أنه في كل مرة يحاول أن يبحث عمن يسد النقص النفسي لديه أو من يشبع شعور الحب والحنان في نفسه لكن في كل مرة كان يتعزز شعور الفقد أكثر وأكثر. غياب الأمان النفسي والعاطفي لا يقتصر على الأسر التي فقدت أحد والديها على العكس تماما فهناك الكثيرون ممن يعيشون بغربة ويُتْمٍ حقيقي بين والديهم وفي وسط أسرهم، وفق ما تقوله حنان التي تبين أن الشعور بالأمان لا يمكن صنعه فهو يولد ويكبر مع النفس. وتبين حنان أن الخلافات الدائمة في البيت بين والديها، والجفاف العاطفي، وعدم إشباع الجانب العاطفي لها هي وإخوتها منذ أن كانوا صغارا أثر كثيرا على شكل التربية، مبينة أنها تبحث عن هذا الأمان بعلاقاتها مع صديقاتها وبأفراد من عائلتها الممتدة لكن كل ذلك لا يعوض شيئا عما تفتقده من أقرب الناس إليها. وبحسب الاستشاري الأسري مفيد سرحان، فإن فقدان الأسرة إحدى وظائفها المهمة وعدم قيامها بمهامها بالشكل الصحيح يسبب مشكلات للأفراد والمجتمع عموماً لأن الأسرة أساس المجتمع. ويشير سرحان إلى أن الاهتمام بالأسرة وبنائها على أسس سليمة يبدأ قبل الزواج وهذا تأكيد على قيمة الأسرة وأهميتها والرسالة الكبيرة التي يجب أن تقوم بها في توفير الشعور بالراحة النفسية والإحساس بالأمان والاستقرار النفسي والاجتماعي للأفراد. ويقول سرحان، “الشعور بالأمان حاجة أساسية للإنسان وهي تنمو مع نمو الفرد، فالأمان العاطفي مهم في مختلف المراحل العمرية المبكرة”، وهي مسؤولية كلا الوالدين والطفل بحاجة إلى الاهتمام والتقبل ومنحه الوقت الكافي، ومن الضروري أن يدرك الوالدان أهمية دورهما والمسؤولية الكبيرة تجاة الأبناء وتربيتهم وإشباع حاجاتهم العاطفية وليس فقط تلبية احتياجاتهم المادية، وأن يشعروا بحب الآباء لهم، فالشعور بالأمان شرط أساسي لاستقرار الأبناء نفسياً واجتماعياً. غياب الشعور بالأمان يؤدي إلى الخوف والقلق والاضطراب ويشعر الأبناء بضعف الانتماء للأسرة والإهمال وعدم الاهتمام والمساعدة في توجيههم وحل مشكلاتهم، كل ذلك يساهم في انحرافهم واتخاذهم قرارات من دون اللجوء إلى الوالدين وقد تكون هذه القرارات مصيرية تؤثر على مستقبلهم وتسبب لهم مشكلات كبيرة. وقد تترك أثراً سلبياً أيضاً على الأسرة والإخوة والأخوات. والأسر التي تكثر فيها المشكلات بين الزوجين غالباً ما يشعر فيها الأطفال بانعدام الأمان وغياب الاستقرار النفسي ويسيطر عليهم الخوف وقد يبحثون عن الأمان عند آخرين خارج الأسرة وقد يسهل خداعهم من الغرباء الذين يشعرونهم “بأمان زائف” يتحكمون من خلاله بسلوكياتهم. إلى ذلك، عندما يصبح الابن شاباً أو تصبح الفتاة شابة فإن عدم الشعور بالأمان يؤدي بالشخص إلى اتخاذ قرارات غير مدروسة كالخروج من المنزل أو مصاحبة رفاق السوء أو التدخين وتعاطي المخدرات وغيرها من السلوكيات الخطيرة على الفرد والمجتمع ويصعب التعامل مع آثارها السلبية. ووفق سرحان، فإن التسرع باتخاذ قرار الزواج للشاب أو الفتاة مع عدم توفر الشروط اللازمة لنجاح هذا الزواج، يكون الدافع الابتعاد عن البيئة التي لا يشعر فيها بالأمان. لذا مسؤولية الوالدين لا تتوقف عند الإنجاب وتوفير الاحتياجات المادية بل إن الاحتياجات النفسية والعاطفية أكثر أهمية لأنها تترك أثراً ربما يصعب ملاحظته عند الأهل ويترجم إلى سلوكيات قد تكون بعيدة عن نظر الوالدين. استعداد الوالدين لتربية الأبناء مهمة كبيرة وعملية ليست عشوائية بل تقوم على أسس تربوية يتعلمها الوالدان من المصادر المختصة وليس فقط من تجارب آخرين قد يختلف فيها الزمان والبيئة وطبيعة الأبناء وقدرات الوالدين. وبحسب سرحان فإن الأسرة هي الحصن الآمن الذي يجتمع فيه الآباء والأبناء وهي المرجعية الموثوقة لكل أفرادها وعدم شعور أي من أفرادها بالأمان يعني وجود خلل يجب الانتباه له ومعالجته. وإذا قدر للحياة الزوجية بعدم الاستمرار وكان الطلاق هو قرار الزوجين، فإن مصلحة الأبناء يجب أن تكون حاضرة وهي أمانة لدى الوالدين حتى لا تنتقل الخلافات والتجارب الفاشلة إلى الأجيال القادمة. ويدعو عدم اهتمام الوالدين بتأمين الأمان العاطفي والنفسي للأبناء، إلى زيادة دور الأعمام والأخوال وربما الأجداد في حال وجودهما فالشعور بالمسؤولية يتطلب من هؤلاء التدخل والحرص على معالجة الخلل والإبقاء على خط التواصل مع الأبناء. الإشباع العاطفي مهم جدا في حياة الإنسان ويبدأ منذ الطفولة بحسب أخصائي علم النفس التربوي الدكتور موسى مطارنة، وفقدان الأمن النفسي يتسبب بحالة من الضوضاء في النفس والإحساس بالنقص وهذا يدفع البعض للبحث عن الأمن الذاتي وثقته وبنفسه لتحقيق ذاته والدافعية في الحياة. ويشير مطارنة إلى أن بناء الذات يعتمد على الحب والإشباع العاطفي وبناء القيمة الإنسانية وتحقيقها بشكل إيجابي، لذلك لا بد من التفكير بشكل مختلف في تربية الأبناء وفي إعدادهم. ويلفت مطارنة إلى الانعكاسات النفسية السلبية لغياب الأمان لدى الأبناء من خلال الهروب لبناء علاقات خارج إطار الأسرة، فيضطر البعض للزواج باكرا بحثا عن هذا الأمان وفي كثير من الأحيان يكون هذا القرار خاطئا، وبالتالي قد يتسبب بالطلاق أو إقامة علاقات غير مشروعة من قبل البعض أو قد تصل للانحراف. ويقول مطارنة، “معظم الشباب والفتيات الذين يهربون من بيوتهم أو يتعاطون المخدرات هم نتاج لافتقاد الأمن النفسي والإشباع العاطفي”، وغياب الإحساس بالدفء الأسري، مبينا أن غياب هذه الثوابت داخل الأسرة ينتج عنه أشخاص منحرفون ومضطربون نفسيا وربما في بعض الأحيان هم أطفال في صراع مع القانون. ويضيف مطارنة، الحزن الداخلي الذي يستقر في نفوس الأشخاص الذين يعانون غياب الأمان النفسي والإشباع العاطفي يولد لديهم اضطرابا داخليا وإحساسا دائما بالقهر والحزن والمقارنة بالآخرين الذين يتمتعون بحياة أسرية هانئة، الأمر الذي يؤجج لديهم ردات فعل مختلفة. ويؤكد مطارنة أن معظم الأمراض النفسية والقلق والتوتر لدى الكثير من الأطفال والشباب والفتيات نتيجة عدم وجود الإشباع العاطفي والأمن النفسي الذي هو أساس الأمن النفسي والاستقرار الداخلي وبناء المفاهيم والقيم الحقيقية للحياة. من جهتها تشير اختصاصية علم النفس الدكتورة عصمت حوسو إلى هرم الحاجات الإنسانية الذي يقسم حاجات الإنسان تبدأ قاعدته بالماء والغذاء والجنس ومن ثم يليها مباشرة الأمن والأمان وهي من أهم الحاجات الإنسانية والمرأة أكثر حاجة لها من الرجل. كل شخص بحسب حوسو لديه خزان من العاطفة منذ طفولته يجب ملؤه، والأب والأم هما المسؤولان عن ذلك، وأهمه الأمان العاطفي الذي يعتبر غذاء الطفل. وتلفت حوسو إلى أن قسوة الأب والأم وعدم منح هذا النوع من الأمان يؤثر كثيرا على الأطفال الذين يملكون خزانا كبيرا للعاطفة ما ينعكس على التصرفات، وقد يكبر الطفل وخزانه فارغ والأمن العاطفي غير موجود، فيبدأ بالبحث عنه بطرق غير صحيحة، وهذا يخلق لدى البعض تعلقا مرضيا بالأشخاص أو الأشياء. وتقول حوسو “غياب الأمان العاطفي يجعل البعض متنمرا أو يتقبل التنمر، عنيفا أو يتقبل العنف”، ليحصل على الأمن العاطفي ويشعر بالأمان. البحث عن الأمان حاجة إنسانية مهمة قد لا يدركها الأهل، ويمكن أن تعتقد الأنثى بسبب طبيعة التنشئة المجتمعية أن خزان العاطفة لا يمتلئ إلا بوجود رجل في حياتها وهذا اعتقاد خاطئ لأنه يمتلئ في كل فترة عمرية من عدة أشخاص حولها وعدة إنجازات قد تتحقق. اقرأ أيضاً: اضافة اعلان