حرية بلا تحرر

"المؤمنون يحتاجون إلى الحقيقة، والناس في قلقهم وحيرتهم وضعفهم يحتاجون إلى الإيمان، والسلطة تتطوع بتوفير الإيمان والحقيقة"
يقول مالوري ناي (كتاب الدين: الأسس) إنه يمكن للدين والأيديولوجيا أن يولدا السلطة، ويمكن أن يكون الدين نفسه جزءاً من الخطاب الذي يفسر علاقات السلطة وتوقعاتها، ويمكن أن يعمل في تنظيم العلاقة بين الطبقات وفي تنظيم العلاقات الاجتماعية والثقافية في الحياة اليومية. وقد تكون الأيديولوجيات الدينية بوصفها مجموعة من الأفكار والممارسات جزءاً من تبرير وفرض علاقات السلطة، كما يمكن أن تكون هذه الأيديولوجيات وسيلة يتم من خلالها الاعتراض على السلطة ومقاومتها. وفي ذلك، فإن "الحقيقة الدينية" تكوّن توقعات السلطة ومصالحها وأهواءها وتقديراتها؛ إذ ليس مهماً أن تكون فكرة دينية صحيحة أو منطقية أو علمية، لكن المهم أن تحقق هدفاً معيناً. وعندما تنتهي فعاليتها فإنها تغير. لم يزعج هذا معظم الموحدين قبل عصرنا لأنهم كانوا على دراية مؤكدة أن أفكارهم عن الدين لم تكن مقدسة؛ كما تقول كارين آرمسترونغ.اضافة اعلان
المؤمنون يحتاجون إلى الحقيقة، والناس في قلقهم وحيرتهم وفشلهم يحتاجون إلى الإيمان، والسلطة تتطوع بتوفير الإيمان والحقيقة، فهي (السلطة)، كما يقول ميشيل فوكو، تسود كل مكان ليس لأنها تشمل كل شيء، لكن لأنها تنبعث من كل مكان. هكذا، فإن السلطة وهي تشكل الخطاب تنتج نظاماً للحقيقة، ذلك أن الخطاب هو الطريقة التي نفهم بها العالم وننشئ الحقائق، فما العالم والحقائق سوى ما نتصوره عنهما، وفي تنظيم القوة والمعرفة يتشكل الخطاب. وبالطبع، فإن المعارضة في خطابها الديني تتحدى السلطة وتنشئ نظاماً آخر للحقيقة، يقول القس ديزموند توتو رئيس الكنيسة الإنجيلية في جنوب أفريقيا والحائز على جائزة نوبل 1984، إذا اقترح أحد أنه لا توجد علاقة بين الدين والسياسة فإنه يقرأ في إنجيل مختلف عن إنجيلي.
إن الدين بذاته أو في هيئته الأصلية ليس سبباً للمعاناة أو التقدم، وعندما وصفه ماركس بأنه أفيون الشعوب كان يقصد بأنه مخرج الناس والسلطة معاً لتبرير الظلم أو تحمله، فهو بالنسبة للمظلومين دواء أو مسكن، وبالنسبة للطبقات المهيمنة تمرير أو تلطيف لعدم المساواة السياسية والاقتصادية. أو كما يراه غرامشي أداة الطبقة السائدة لجعل الإذعان لها أمراً مقبولاً وجزءاً من الحياة اليومية والثقافية. والأيديولوجيا، كما يراها المفكر الفرنسي الماركسي التوسير، هي وسيلة لرؤية الحقائق الأخرى؛ أي الوهم المضلل رغم أنها تشير ضمنياً إلى الحقيقة. هكذا وفق ألتوسير فإن المقموعين تمنحهم الأيديولوجيا شعوراً بالحرية من دون أن تحررهم بالفعل، ويسلكون في الإذعان بحريتهم ووعيهم وإرادتهم كتابعين. إنهم يعتقدون أنهم أحرار، لكنهم في الواقع سجناء أيديولوجيا تشعرهم بأنهم أحرار.
وعندما رأى ماكس فيبر أن الدين أساس للتقدم الرأسمالي، لم يكن يقصد بالطبع أنه منشئ للرأسمالية البروتستانتية الأميركية، لكنه بالتأكيد عامل مساعد، ففي فهمه الدقيق للظروف المادية والأيديولوجية والاجتماعية التي سادت في أميركا الشمالية في الفترة من القرن السادس عشر إلى الثامن عشر، قدم ماكس فيبر تصوراً مهماً للرأسمالية وعلاقتها بالبروتستانتية والتي من خلال تشجيعها على الانضباط والزهد بين أتباعها مع المحافظة على الاقتصاد والعمل الدؤوب شجعت على تطوير الرأسمالية كنظام اقتصادي اجتماعي. لكن مؤكد أن الرأسمالية بدأت في أوروبا قبل ذلك بكثير.
وما تزال الكنيسة في دول عدة في القارات الأوروبية والأميركية رغم علمانيتها مرتبطة بالسلطة، وتمثل أداة مهمة لإضفاء الشرعية على السلطة، أو أداة لتنفيذ القانون وبناء الهوية والإجماع الوطني، أو ما يجعل المواطن يتصرف ويفكر دائماً تحت تأثير الشعور بأنه مراقب. وليس له خيار سوى أن يمضي في طريق السلطة الممهد والواضح والآمن، أو الحرية مع التيه والفوضى.