حزب "العدالة" التركي ينشد العدالة

خرجت تركيا منهزمة بعد الحرب العالمية الاولى حيث تألبت عليها قوى غربية بالتعاون مع الصهيونية العالمية لاسقاط الخلافة العثمانية وكان من شروط الاستسلام الذي وقعته تركيا عام 1923 بعد هزيمتها الغاء الخلافة الاسلامية واستبدالها بنظام جمهوري علماني يبعد الدين عن مواقع الحكم, ويعتمد العلمانية وسيلة لادارة شؤون البلاد واختفاء معالم التدين من مساجد ومآذن ولباس اسلامي, واصبح الطربوش علامة على العلمنة, واصبح الحكم بيد مجموعة من العسكر يحرسون النظام العلماني ويحاربون المظاهر الدينية ويعمقون روح التغريب والمظاهر الغربية في الحياة العامة التركية.

اضافة اعلان

وامتدت هذه الحالة سنوات عديدة الا ان الشعب التركي بقي شعبا مسلما محافظاً على كثير من مظاهر التدين في مدنه واريافه وقد صهرته الحياة والعادات الاسلامية والذي كان يعتبر نفسه حارسا للدين وخليفة للمسلمين في الحفاظ على دينهم وجمع كلمتهم في دولة الخلافة العثمانية التي شمل حكمها معظم الاقطار الاسلامية حتى وصلت الى بلاد الهند شرقا واواسط اوروبا.

وبقي عامل الدين جمرة متقدة يعلوها الرماد وتظهر بين الحين والاخر على شكل عواطف واحزاب وجماعات تنادي بالعودة للاسلام ولكن على استحياء وتردد وظهرت بعض الاحزاب التي يقوم عليها بعض الاسلاميين كالزعيم التركي اربكان واردوغان وامثالهما ينادون بالهوية التركية من دون محاربة للعلمانية بشكل واضح. واستطاع حزب الرفاه الذي شكله اربكان ومعه مجموعة من الاسلاميين الفوز في الانتخابات وتزعم الحكومة في فترة التسعينات، وبدأ بعملية اصلاحية داخلية ومحاولة جمع كلمة المسلمين، وسعى الى تكوين تحالف من الدول الاسلامية، الا ان الغرب قد تنبه الى هذه القوة الصاعدة بعودة تركيا الى مصدر قوتها وهو الاسلام، فانقلب عليه العسكر وفرضوا حظرا على حزبه ومنع من العمل السياسي لمدة خمس سنوات. الا أن رفاقه شكلوا بعده حزب السعادة الذي حل محل حزب الرفاه، وانفصل عنه اقرب مريديه ورفاقه في العمل السياسي بزعامة اردوغان والذي شكل حزب العدالة والتنمية.

وقد استطاع هذا الحزب الفوز بالانتخابات العامة لدورتين متواليتين كان اخرها عام 2007 واستطاع ان يحصل على اغلبية المقاعد البرلمانية وعلى نسبة تزيد عن 49.5% من مجموع عدد الناخبين الاتراك الامر الذي اهله الى تولي مسؤولية الحكم ورئاسة الحكومة وترشيح عبدالله غول رئيسا للدولة....وبدأ ببعض الاصلاحات ومنها تقليص مهمة العسكر واعادة تشكيل مجلس الامن القومي بحيث يكون له الاغلبية داخله... وبدأ بتقديم وتلبية بعض مطالب ناخبيه وخاصة ان معظمهم من منطقة الارياف المعروفة باصولها الدينية وتمسكها بمظاهر التدين المختلفة وذلك برفع الحظر عن الحجاب في الجامعات والمدارس والدوائر الحكومية.

وهنا تنبه العلمانيون وجنرالات الحكم الحارسون للعلمانية وبتحريض من بعد الاحزاب العلمانية ومنها حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية الى خطورة هذا التوجه فاقاموا دعوى لدى المحكمة الدستورية العليا لإبطال قرار مجلس النواب بموضوع رفع الحظر عن الحجاب وصدر قرار المحكمة بالغاء القرار واعادة فرضه ثم جرى تقديم دعوى لالغاء الحزب والسعي لمنع واحد وسبعين قياديا من العمل السياسي لمدة خمس سنوات ولا زالت القضية تنظر امام المحكمة الدستورية.

يسعى الحزب الحاكم للدفاع عن نفسه بزعم انه لا يحارب العلمانية وان ما قام به لا يتعارض مع العلمانية وان موضوع الحجاب هو من الحريات الشخصية التي تعتبر اساسا من اساسيات العلمانية باعتبار ان العلمانية تركز على مفهوم الحريات الشخصية ولا تتعارض معها وان منح الحريات الشخصية للاتراك سيلبي شروط الاتحاد الاوروبي لقبول تركيا في هذا الاتحاد كعضو عامل فيه.

وفي استطلاع اجرى مؤخرا لصحيفة "ميليت" التركية اظهر ان غالبية الاتراك يؤيدون مواقف وسياسات حزب العدالة الحاكم واظهر الاستطلاع الذي اجراه معهد "ايه اندجي" للابحاث يومي 14، 15 حزيران وشارك فيه 2403 اشخاص ان 53.3 % ضد اغلاق حزب العدالة والتنمية وان 37.7 % يرون ان اغلاق الحزب سيثير فوضى اقتصادية.

ومن المعلومات التي رشحت للدوائر الاعلامية والسياسية ان حزب العدالة يهيئ نفسه لاسوأ الاحتمالات وهناك استعداد للاعلان عن حزب بديل يحمل نفس التوجهات وان كان يختلف في الاسم والمسميات علما بأن النظام السياسي التركي يسمح للمواطنين بتشكيل الاحزاب والاعلان عنها من دون الرجوع للحكومة او لمؤسسات الحكم باعتبار ان تشكيل الاحزاب هو من الحقوق الاساسية للمواطن التي لا تحتاج لاذن مسبق من السلطات الحاكمة....

ومن المتوقع ان تكون هناك مخاطر كبيرة قد تلحق باقتصاد تركيا وبالسلم الاجتماعي اذا قررت المحكمة حل الحزب في الوقت الذي حقق فيه الاقتصاد التركي نموا واضحا وشهد تقدما ابان حكم حزب العدالة وارتفاعا في قيمة الليرة التركية بعد ان شارفت على الانهيار في ظل الحكومات السابقة.

ويبقى حزب العدالة الذي يملك رؤية واضحة وسياسات تلتقي مع آمال وطموحات الشعب التركي في استعادة تركيا لدورها العالمي كقوة فاعلة في المنطقة وخاصة انها تشكل مساحة واسعة وموقعاً استراتيجياً يربط الشرق بالغرب ويربط البحر المتوسط الذي تقع عليه الدول الشرق اوسطية والاوروبية معا بالبحر الاسود الذي تقع على شواطئه روسيا وتركيا ودول الجوار الاخرى.. وهي ايضا تمتاز بمناخها المتعدد وطبيعتها الخلابة واثارها العديدة والمتنوعة التي يزورها اكثر من عشرة ملايين سائح سنويا وبكثرة مياهها وانهارها وبحيراتها واحاطة عدة بحار بشواطئها وقد بدأت مرحلة التصنيع في كثير من المجالات, كل ذلك يؤهلها لان تستعيد دورها الريادي في المنطقة لولا الاصابع الخفية التي تعبث فيها بين الحين والاخر.