حزيران لم يغادرنا

5 حزيران (يونيو) 1967... ما نزال هناك؛ حكومات وأفرادا ومجتمعات، لم ننس ولم نغادر، كأن الزمان والكون جمدا عند تلك اللحظة. لم نستوعب ولم نتقبل أننا هُزمنا؛ نريد أن تعود الدنيا إلى 4 حزيران (يونيو) 1967. لكنها عودة غير ممكنة إلا بانتصار. ولشديد الأسف، فإن الانتصار ليس له إلا معنى واحد، ولا يصلح مع هذا المعنى الصعب سوى أن نخوضه، أو ننسى ونغادر إلى 12 حزيران (يونيو) 1967.اضافة اعلان
البطولة في استيعاب الهزيمة والانتقال الفوري إلى الـ"ما بعد". أما المكوث فيها، فإنه يتحول إلى انفصال عن الواقع.. ثم تتحول الهزيمة إلى متوالية من الهزائم والكوارث، وأشدها خطورة مظنة الوهم بطولة.
هو انفصال كارثي يمكن الاستدلال عليه في حالات كثيرة كاسحة. يكفي لأغراض المساحة، الإشارة إلى انتشار كتب مثل "بروتوكولات حكماء صهيون"، و"أحجار على رقعة الشطرنج"، و"تحطمت الطائرات عند الفجر". كنا متحمسين لقراءة واقتناء الكتب التي تعتبر مهمة أو خطيرة ويمنع تداولها، بسبب ما فيها من أسرار أو لخطورتها. وأدركت بسرعة أن جميع هذه الكتب -في حدود تجربتي- ليست مهمة، ومعظمها ممنوعة لأنها تنتقد بقسوة نظاما سياسيا، ولكنه انتقاد لا يقدم أو لا يضيف معرفة ولا يغير فكرة.
ما يحيرني أن الأجيال اللاحقة تكرر الشغف نفسه بالكتب إياها من دون تغيير في القائمة؛ لا حذف ولا إضافة. ولكن ما يصدمني أن يتقدم العمر ببعض الناس وما يزالون يتحدثون ويروون الأسرار العظيمة في كتب جميعها تباع في جميع المكتبات، وليست سرية كما يحب أن يؤكد الراوي المطلع على بواطن الأمور والأسرار والخفايا.
في تحليل وتقييم حرب حزيران، تجب ملاحظة إلى أي مدى تستخدم كتب مثل "تحطمت الطائرات عند الفجر" أو "بروتوكولات حكماء صهيون" أو "أحجار على رقعة الشطرنج"، في التفكير والتحليل. في أحد النقاشات في "فيسبوك"، رد عليّ صديق يعمل صحفيا منذ خمسين عاما أو تزيد، محتجا ببروتوكولات حكماء صهيون. لم يكن ذلك بالنسبة لي صدمة وخيبة أمل فقط، وإنما أيضا استبعاد، يقترب من اليأس، أن تتشكل حالة اجتماعية وأخلاقية عقلانية تنشئ تقديرا واقعيا لمساراتنا. وأسوأ من ذلك العجز عن المشاركة والتأثير في تقرير مسارنا ومصيرنا.
صرت كلما سمعت أو قرأت لهذا الاتجاه المفرط في تجاهل الحقائق، أرى الهزيمة. فلم تكن الهزيمة سوى البطولات الوهمية والمواقف اللاعقلانية. ولم تكن مواصلة المقولات البطولية بلا سند حقيقي أو واقعي، وتكرارها على مدى السنين والأجيال، سوى حيلة للوصول وحماية الفشل والعجز عن العمل المنتج أو عدم الرغبة في ذلك.
لم تكن الأزمة يوما نقص المعرفة، ولكنها كانت دائما سوء النية المسمى زورا وبهتانا بطولة ومعارضة ومقاومة بلا بطولة ولا عمل ولا معارضة ولا مقاومة. وقد صدقنا ذلك، ليس لأننا لا نعرف، ولكن لأننا شركاء ومتواطئون في توهم البطولة والمعارضة والنضال، ولأننا لا نريد العمل الحقيقي ولا نريد أن نعرف، ونصدق ما نريد ونرغب فيه... وليس إدراك الحقائق.
ليس أمرا بريئا أو مجرد حالة تدعو إلى السخرية تعطيل العقل في العمل والتفكير. ولكنها حالة مريبة. فمن دون هذه الغيبوبة لا يمكن للأوليغارشيا الهيمنة على الأغلبية.