حسابات إسرائيل

تسرع إسرائيل، في هذه المرحلة، الخطى في ثلاثة اتجاهات تصعيدية متوازية وفي آن واحد، وهي: تعزيز الطابع العنصري الذي يستهدف فلسطينيي 48؛ وتدمير أي احتمال لقيام دولة فلسطينية؛ وفرض وقائع لتغيير مسار تطور أزمة الصهيونية الديمغرافية المتعلقة أساسا باليهود المتزمتين "الحريديم". وتستغل إسرائيل لذلك الظروف الداخلية والإقليمية التي تعتبرها جيدة بالنسبة لها، لاستباق كل الأزمات التي تتوقعها، وقد "تشوش" على المشروع الصهيوني الاستراتيجي: إسرائيل.اضافة اعلان
إذ نجد إسرائيل في هذه الأيام تخطط لمرحلة جديدة من القوانين الأشد عنصرية، سيكون في مقدمتها قانون "دولة القومية اليهودية"، الذي يضاف إلى قوانين عنصرية قائمة، ويهدف أساسا إلى قوننة جميع السياسات العنصرية المطبقة على الأرض، ويحوّل أهل البلاد الأصليين والشرعيين، الفلسطينيين، إلى مجرد "رعايا" ينتظرون "حسنات الصهيونية" عليهم.
وبموازاة ذلك، نرى إسرائيل تسارع الخطى نحو تدمير أي احتمال لقيام دولة فلسطينية وحل الصراع. وهذا لا يتوقف فقط على المشاريع الاستيطانية، بل أيضا من خلال السياسات التي تمارسها ضد الشعب الفلسطيني، وتحرمه أبسط مقومات الحياة.
تبني إسرائيل حاليا على الوضع القائم، الذي يخلو فيه أي نوع من الضغوط عليها، بدءا من الضغط الشعبي الفلسطيني الواسع، وصولا إلى الضغوط الدولية، إضافة إلى توقعها استمرارية حالة عدم الاستقرار الإقليمي. وكما يبدو، فإن صنّاع الاستراتيجيات الصهيونية والإسرائيلية ما عادوا يأخذون بالحسبان انقلاب الأوضاع رأسا على عقب، خاصة فيما يتعلق بالساحة الفلسطينية، حتى إن أصواتا في إسرائيل بدأت تتنبه إلى هذا الأمر، وتحذر حكومتها من عدم الغرق في الغطرسة الزائدة، وكأن الوضع غير الطبيعي هو الوضع الدائم من دون حدود.
يقول الكاتب يحزقيل درور في صحيفة "هآرتس": "إن المستندين إلى الوضع الأمني الهادئ الحالي وكأنه مستديم، أو المؤمنين بـ"إدارة النزاع" طويل الأمد، هم مصابون بالعمى. فالآن بالذات علينا أن نستغل الوضع الجيد نسبيا لضمان مستقبلنا. ويمكن عمل ذلك بمبادرة إقليمية صادقة للسلام". لكن هذا يُعد صوتا نشازا في الحلبة الإسرائيلية، إذ إن إسرائيل لم تتعلم من دروس الماضي، فهي فوجئت تماما بحجم واستمرارية انتفاضة الحجر التي اندلعت في نهاية العام 1987، وكان الهدوء قبل اندلاعها بأيام شبيها بهدوء هذه المرحلة. ولهذا، فإن إسرائيل لا تستطيع أن تحكم على الشعب الفلسطيني بديمومة الحالة القائمة.
ولربما أن في إسرائيل من يؤمن حقا بأن الوضع القائم لن يدوم، ولكن بدلا من استغلال الأمر للتقدم نحو حل الصراع، يكثّف هؤلاء تطبيق كل السياسات الهادفة إلى تثبيت الوضع القائم، وإبعاد المواجهة الشعبية، من خلال جدار الاحتلال، وتقسيم الضفة إلى كانتونات. ولكن التجربة الفلسطينية علّمت أن الانتفاضات الشعبية الجماهيرية قادرة على الإبداع في أشكال المواجهة الهادفة إلى قلب المعادلات القائمة.
ليس هذا فقط ما يقلق إسرائيل، بل هي منشغلة كليا أيضا، بما تعتبره خطرا داخليا على طابع كيانها. والقصد هنا هي التغيّرات الديمغرافية في الجمهور اليهودي، وبشكل خاص تزايد نسبة اليهود المتزمتين "الحريديم" بوتيرة هائلة بفعل "التكاثر الطبيعي" بنسبة 3.1 % مقابل 1.4 % بين العلمانيين اليهود. وحسب دراسات وأبحاث، فإن نسبة الحريديم من بين اليهود وحدهم في إسرائيل ستصل في العام 2030 إلى ما يزيد على 26 %، يضاف إليهم 25 % من اليهود المتدينين من التيار "الديني الصهيوني".
لكن مشكلة إسرائيل الأكبر مع "الحريديم" هي في طبيعة مجتمعاتهم المنغلقة على نفسها، ونمط حياتهم التقشفي غير الاستهلاكي بالمفهوم الاقتصادي العصري، وعدم انخراطهم في سوق العمل، وامتناعهم عن الالتحاق بالجيش لدوافع دينية. وفوق كل هذا، خوف العلمانيين من أن تزايد "الحريديم" سيفرض عليهم المزيد من قوانين الإكراه الديني.
تسعى إسرائيل، من دون أن تجاهر بذلك، إلى تفكيك مجتمع "الحريديم" من الداخل، عبر فرض الخدمة العسكرية على شبانهم، من منطلق أن انخراطهم في الجيش يجعلهم ينخرطون أكثر في العالم المفتوح، وليكون ذلك أقصر الطرق لخروجهم من مجتمعهم. وهذا ما يدركه كبار حاخامات "الحريديم"، ولهذا فهم متشددون في رفضهم الخدمة العسكرية.
تحاول إسرائيل الهروب من سلسلة أزماتها المستقبلية. ولكن هذه أزمات هي ذاتها سببها الأساسي، ولا يمكن إلا أن تنفجر جميع هذه الأزمات لتقلب كل حسابات إسرائيل رأسا على عقب، والمسألة مسألة وقت.