حصار اللغة

ماذا كان يتحدث الناس عندما كانت لغتهم واحدة؟ إنها على الأرجح (لدي على الأقل) اللغة المنسية، والقائمة على فهم واستيعاب الإشارات والدلالات والأفكار والصور والزمان والمكان، وهي اللغة التي يحاول استعادتها الفلاسفة وعلماء النفس والتحليل النفسي لفهم الإنسان والمتصوفة باعتبارها اللغة التي تمنح السلام للإنسان والصفاء والانسجام، ولا بد أنها لغة أهل الجنة التي كان يتحدث بها الملائكة والجن، وبنو آدم قبل أن يهبطوا من الجنة ثم بدأوا يفقدونها، وفي بحثهم عنها جاءت هذه اللغات المختلفة الكثيرة، إن قصة الإنسان منذ هبوطه "منها" هي استعادة السعادة والرضا، كأنه لاجئ مشرد فقد وطنه ويريد العودة إليه، وفي الأحلام نستعيد هذه اللغة على نحو ما، فنسافر في الأزمنة والأمكنة عودة وتقدما، ويتفاهم الناس جميعا برغم اختلاف لغاتهم الطارئة والمستحدثة، ولذلك فإن الأحلام تصلح برأي الفلاسفة وعلماء النفس للتحليل والعلاج، وهي في القرآن والكتب السابقة كانت مصدرا للمعرفة وفهم المستقبل وتقديره، رؤيا ملك مصر على سبيل المثال أنقذت الناس، وفي الحقيقة فإن الذي ساعد على الإنفاذ هو فهم يوسف للرؤيا وتقديمه الرأي والمشورة،

اضافة اعلان

"فما حصدتم فذروه في سنبله"، ورؤيا إبراهيم التي أوقفت التضحية بالبشر، وكذا سفر الرؤيا.

ما أهمية هذا الكلام؟

ثمة فكرتان أساسيتان، أولهما أن الصواب والحقيقة يحتاجان إلى أداة معرفية لاستيعابها، وهذه الأداة بقدر استيعابها للحقيقة نحصل على السعادة والتقدم والحرية والهدف الأسمى للحياة، وفي إنجيل يوحنا "الحقيقة تحرركم".

فالمعارف والحقائق تحل في اللغات والصور والموسيقى والإشارات، ولا يمكن استيعابها إلا بأداة مناسبة وكافية، فنحن نقول على سبيل المثال وغالبا للتزلف والنفاق:إن الكلمات تعجز عن التعبير عن مدى فرحتنا وتقديرنا، ولكنه مثال يصلح للإشارة كيف تعجز اللغة عن استيعاب الفكرة وعرضها، وللبحث عن أداة أو لغة أكثر شمولا من الأصوات والكلمات والصور.

فاللغة هي ترميز المعرفة بتحويلها إلى صوت أو صورة أو إشارة أو تعبير ما، ثم جعلنا من الصوت كلمات، ورمزنا إلى الكلمات بالكتابة، بدأنا بالصورة ثم المقاطع ثم الحروف الهجائية التي كانت من أعظم اختراعات البشرية، وهي بالمناسبة أداة حديثة نسبيا في تاريخ البشرية لا يتجاوز عمرها خمسة آلاف عام!

الصوت(يعني الهواء) والضوء هما مصدر التعبير عن المعرفة، وهما أيضا مصدر الحياة، ففي التنفس والماء(تفاعل الأوكسيجين مع الهيدروجين) والتمثيل الكلوروفيلي(الضوء) في النبات تقوم الحياة والغذاء وتستمر أيضا، وهكذا فإن اللغة في كونها مادة الحياة يجب أن تكون على قدر يكافئ الحياة نفسها بتعقيدها وجمالها وأسرارها، ونحصل على السلام والتقدم بمقدار تقدم اللغة نفسها.

المساحة المخصصة تحاصرني وتجعلني مثل الصباح الذي يداهم شهرزاد ويمنعها من إكمال الحقيقة، ولذلك كانت الصحافة مثالا للاختزال والتشويه والتبسيط، وهي حالة تصلح في هذا المقام للإشارة إلى حصار اللغة الذي يمنع الفهم والتحليل ويعوق المعرفة أيضا.

فالصحافة في سرعتها وطبيعتها الاستهلاكية تشكل الأفكار أيضا والأذواق على النحو الزائل والسريع، ثم يتبعها في ذلك السياسة والفلسفة وأسلوب الحياة، إنها تنشئ أدوات معرفية ولغات أخرى يراد لها أن تستوعب الحياة بتعقيدها، ولكنها في إغوائها تستدرج الساسة والقادة والعلماء والدعاة والمفكرين ليحشروا خبراتهم ومعارفهم في أوعية وأدوات تختلف عن تلك التي تلقوا بها معارفهم وراكموا تجاربهم، ويقودهم في ذلك صحافي جاء إلى الصحافة ربما لأنه لا يفقه شيئا في الفيزياء.

وهكذا فإن حياتنا ومعارفنا ومواقفنا ومواردنا وأوقاتنا تدار بمصادفة الرسوب في الفيزياء، فما نعرفه هو ما سأل عنه الصحافي، وما لا نعرفه هو ما لم يسأل عنه، كل معارف الخبير والمسؤول المحاصر في استوديو أو في صحيفة يتحكم بتقديمها للجمهور سؤال الصحافي الذي تنحصر علاقته بالموضوع بالرابط العجيب بين رسوبه في الفيزياء وبين أزمة الغذاء العالمية وارتفاع أسعار النفط وسلاح حزب الله.

[email protected]