"حصة البيانو"

أحبَبْتُ الغناءَ في وقتٍ مبكِّرٍ لم يخلُ من الخطأ. جاءت حصَّة الموسيقى مجدداً، كانت الثالثة قبل الاستراحة، في شتاءٍ رائقٍ بعد صمت المدافع على حدود الكويت، من جهة التقاء الشرق بالشمال. جلسْنا على المقاعد التي رصَّت بشكل دائريٍّ، منتظرين إيعازاً غير موسيقيّ من "الأبلة" المغرورة التي لم تعلِّمنا صعودَ السلَّمِ، واقتصرَ واجِبُها المهنيّ على أنْ تعطي كلَّ طالب، وطالبةٍ دقيقة لـ"العبث" على البيانو.اضافة اعلان
جاء دَوْري متأخِّراً، ضغطتُ على العاج الأبيض بعشوائيَّةٍ كنتُ أظنُّها مدروسَةً، وستُصدرُ مقدِّمَة "عُبَرْت الشط"، وقبل أنْ تنتهي دقيقتي، تقمَّصتُ صوتَ العراقيِّ: "أحلى من العسل مُرَّك"، فضحكت الدائرة، وخرجتُ منها إلى الاستراحة، وتحت سارية العلم الكويتيِّ بكيتُ، وسأعرفُ منذ الحصة الرابعة، أنَّ في بعض البكاء غناء.
كان الوقتُ خاطئاً، كنتُ قد عرفتُ أنَّ لي صوتاً مزعجاً، بعدما أجريتُ العمليَّة الأخيرة في فمي، لكنَّني لم أكُن أصدِّقُ أنَّه لا يصلحُ للغناء، في الكورال على الأقل، مع الطلاب والطالبات الذين انتقتهم مدرِّبة مرحة، ليمثلوا المدرسة في الكورال الكبير في عيد استقلال الكويت. في البيت، في الشتاء ذاته، سأجلس وحيداً، أسجِّلُ صوتي "أحلى من العسل مرَّكْ"، ثمَّ سأستمعُ إليه، سأكرهه، وأكرهني، وأخجلُ من الكلام، وسيدور في رأسي سؤال لن أجد إجابة له حتى تنتهي السيرة كاملة: لماذا عندما أتكلمُ أسمع صوتاً حلواً، ربَّما أجمل من صوت "العراقيِّ"، بينما يسمعُ الناس صوتاً مزعجاً، مشوَّشاً، لا يدلُّ على ما كنتُ أودُّ قوله، صوتاً يجعلني سُخْريَة للناس، وسخِرتُ منِّي، عدتُ لأستمع إلى التسجيل، وكنتُ أغنِّي لي "بسْ لا تجرح إحساسي"!
وكان الوقت مبكراً. ظهيرة صيفٍ أخيرٍ قبل عودة الحرب بصيف، غادرتُ المستشفى بعد عملية لرتق طبلة الأذن اليُمْنى. أسمعُ جيِّداً تذمّرَ أبي من الحرِّ، وجهاز التبريد الفاتر في السيارة اليابانية البيضاء، وإيقاعاً فلسطينياً هادراً يأتي من شريط "الكاسيت" في آخر دورته. أسمعُ كلَّ شيءٍ، فأقولُ لأبي بحسمٍ إنَّ العملية قد نجحت، قبل أن يُزالَ "الضماد" عن رأسي، ثم حشوة الجبس في أذني الصغيرة على نحو غريب، والغُرز الست خلفها، قبل أن يحدث كلّ ذلك، أسمعُ بوضوحٍ كأنني "زيِّ الناس".
سأنتهزُ أول فرصة للخلوِّ بجهاز التسجيل الذي من بابَيْن، لأسمعَ من "العراقيّ" كلَّ الكلمات التي سمعتها خطأ، وجعلتني سخريَةً عندما "غنَّيتُها"، سأقرِّبُ إحدى السماعتين من أذني التي اعتقدتُ أنَّها رتقت تماماً بعد الجراحة، سأقرِّبها أكثر، وأرفع الصوتَ حتى آخر الدائرة، ولن أفهم من أغنية "لدغة الحية" سوى أنَّ المغنِّي "تعيس"، وأنه سيُصيبني بكآبته لما أعرف بعد ثلاثة أعوام أن العملية لم تنجح، وأنني سأعتمدُ على إحساسي لفهمه، على أن يلتزمَ هو فيما بعد بالغناء بالفصحى التي يسهل سماعها بأذن مثقوبة!
"العراقي" سيُذكرُ باسمه كاملاً عندما أذكرُ مجرداً في المنزل، وكلّ منزل لي فيه صورة شخصية، وإنْ غبتُ لن يغيبَ ذِكرُه، وبغنائه سيتذكَّرُني الأقرباء والأصدقاء والغرباء الودودون. هكذا "أنا وكاظم" و"همٌّ كربلائي"، ودائماً سيكونُ هناك "امرأة تجعلني أحزن"، تغنِّي لي "سلامتك من الآه"، فأبالغُ بالدلال: "أنا أقدم عاصمةٍ للحزن". قبل كلِّ ذلك ستحدثُ الحربُ مجدداً، من الشمال وحده، وتتهيأ في الجنوب جيوش بإمكانها أن تفتعل إنْ مشتْ "عاصفة في الصحراء". سيُغني "العراقيُّ" لـ"العزيز" عندما أسافرُ و"عودي أخضر"!