حقيقة الوعي، وعدمه..!

في معركة أُحُد، خالف الرماة الذين كُلفوا بحراسة ظهر جيش المسلمين الصغير على سفح الجبل أوامر نبيهم وقائدهم، وغادروا مكانهم قبل أن يؤذن لهم. رأوا العدو يتراجع وقدّروا أن المعركَة كُسبت وهبطوا، للاحتفال أو جمع الغنائم –لا يهم. لم يعرفوا أن للمعارك أطوارا، وأنهم أمروا بالبقاء هناك لحكمة، وأن مغادرتهم ستدير الدوائر على جيشهم وتفضي إلى خسارات في الأرواح كان يمكن تجنبها، بل وتجلب الهزيمة الكاملة. ولم يَهمّ أن الأمر جاء من نبي الله، لا أقل. هكذا تُكسب المعارك أو تخسر، بتفاصيل صغيرة.اضافة اعلان
الجنود في صراع الأمم مع "كورونا" هم مواطنوها وأذرع الدولة والطواقم الطبية وكل من موقعه. وبتصوّر معركة أحد، فإن رماة الجبل في حرب "كورونا"، حراس الظهر والخاصرة، هم المشتبه بحملهم الوباء، الذين يُطلب منهم التزام بيوتهم واعتزال الناس أسبوعين لكي لا يؤتى البقية من جهتهم. وعندما يغادرون مواقعهم مبكراً، كما حدث مرات هنا وما يزال، يصاب الآخرون وقد يموت البعض، ويزيد أمد المعاناة من تعطل الاقتصاد وإغلاق سبل العيش.
يُفهمُ أن لا يُقدّر فردٌ العواقب ولا يرتدع بقانون. ولكن، كيف يُحدث وليمة، فيجيبه عشرون أو ثلاثون يعرفون أنه قادم حديثاً من منطقة وباء، ومتعهد لوطنه بتوقيعه وضميره بعزل نفسه أياماً معدودات؟ لا يتعلق هذا بوعي فرد، وإنما بكل المشاركين. ثم كيف يجيء المعازيم من محافظات أخرى، بأي تصاريح؟
لنكن صريحين. نجح البلد حتى الآن في احتواء الوباء بسبب الخطة الوطنية المحكمة والتزام غالبية المواطنين. لكن شيئاً من التوفيق حالفنا أيضاً لأن المستهترين بالتعليمات – العلمية والمنطقية قبل أن تكون أوامر دفاع- أكثر أضعافاً من الذين يُضبطون ويُعلن عنهم.
في منطقتنا مثلاً، الكبيرة والتي ليست شوارعها أزقة مختفية، يخرجون في عز ظُهر حظر أيام الجمعة ويتنقلون مسافات. (من المفارقات أن بعضهم طلبة آسيويون، تحرروا من الخوف من الوصمة والقانون). وهناك الذين يخرجون بعد صفارات الحظر المسائية للتزاور كل يوم. وعندما كان استخدام السيارات ممنوعاً لغير أصحاب التصاريح، كان الشارع التجاري الرئيسي (أوتوستراد) المجاور للحي، مليئاً بمئات سيارات المتسوقات والمتسوقين الذين لا يُسألون عن شيء، ومن الواضح أن أغلبهم لا يحملون أي تصاريح. وكنا نحن المشاة نشعر أننا الوحيدون "الساذجون".
وفي رمضان، ثمة الذين يقيمون الولائم والذين يحضرونها، ويغادرون بعد السهرة -حتماً خلال الحظر. وقد سمعت عن أناس يفطرون ويسهرون سهرات عائلية عند الأصدقاء لأن زوجته/ زوجها يحمل تصريحاً. ومن الواضح أن كثيرين من حملة التصاريح يصرّحون هم لآخرين بمرافقتهم – لشخص واحد أو لحمل سيارة- في الحظر، ربما بروحية "مش عارف مع مين بتحكي"؟ وعرفت عن طالب جامعة معه تصريح، وأحاول أن أخمن لماذا، وأنا صحفي وليس معي تصريح. (بعض معازيم الإفطارات يتجمعون من محافظات يفترض أنها معزولة، أو من أحياء بعيدة في المحافظة، بأي تصاريح؟ يبدو أن "التصريح" هو بعض الجرأة، والاستخفاف بخطورة المرض).
الاطمئنان الذي يُظهره المخالفون الكثيرون، والاستهتار الذي يعرضه المصابون المحتملون الذين لا يحجرون أنفسهم، وأي خرق في الخطة الرسمية وإجراءات السيطرة، كلها مخيفة. في كل مكان يتحدثون عن موجات أكثر فتكاً من الوباء حين يُعتقد أنه تحت السيطرة. وقد رأينا في الأيام الأخيرة كيف يؤجل إجراء خاطئ أو شخص واحد غير ملتزم عودة البلد كله إلى الحياة، ويقطع رزق أعداد لا تُحصى من مواطنه، ويجلب الإغلاق والخوف لحيّه ومدينته ومحافظته.
في زمن الوباء، يُحكم على وعي الشعوب ونجاح الدول بدرجة احتواء التفشي وتقليل الإصابات والوفيات، بما يتيح فتح الاقتصاد واستئناف الحياة. وإذا تسبب خمسون فرداً فقط بإصابة خمسمائة ثم خمسة آلاف، بسبب الاستهتار فقط وليس الصدفة، فلن يوصف الشعب المصاب كله بأنه واع، وستوصف الدولة بأنها فشلت في احتواء الوباء – وقد تصبح "دولة فاشلة" بالمعنى المعروف حرفياً. وسيكون الوصف أقل الشرور. ثمة المعاناة المباشرة وبعيدة الأجل، من المرض والموت، إلى إصابة الاقتصاد وسبل عيش الناس في مقتل. وليست معركة تُخسر لأن قلة كشفوا الخاصرة سوى هزيمة فقط، للجميع، ولَن تُؤخذ أطوارها التفصيلية في الحسبان.