حقي على الموت!

مِتُّ..؛ أو هكذا ظنَّت زوجَتي، فتهيَّأَ أبنائي لمرحلَةِ اليُتْم المتأخِّر، وردَّدَ والدي قولاً شعرياً عن اختلاف أماكنِنا في الجنازة: "كيف بدَّلْتَ أدوارَنا يا بُنيّ، وسِرْتَ أَمامي أنا أوّلاً، وأنا أوّلاً"، وأمِّي رجَتِ اللهَ أنْ يُعجِّلَ بيومِها وتلقاني في الجنَّة (..ولم أعرف على أيِّ أساس حسَمَت وجهتي في الآخرة)، وأصدقائي جلسوا في بار عتيقٍ يذكرونَ محاسني القليلة، ونساءٌ سرياتٌ كتبنَ بأسماءٍ مستعارة على جداري "الفيسبوكي" حباً كثيراً لم أستحقه أثناءَ حياتي..، متُّ؛ أو هكذا ظنَّ الجميعُ!اضافة اعلان
اليوم الأول كان مؤلماً، بلا شك، حدثت فيه مواقف مؤثرة، لا تمَّحي من ذاكرة الأحياء، حتى الموتى يمكنُ أنْ يلتقطوها في اللحظة الأخيرة بين الصحو والنوم العميقِ، ويجمعوها تحت الرداء الأبيض لتزجية الحياة الطويلة في القبر الواسع!
..بعضُ أصدقائي انهارَ على طرف السرير بشكلٍ يوحي أنَّه لن يقوى على المشي لاحقاً، وزملائي في العمل اجتمعوا كلهم خارجَ غرفةِ العنايَةِ المُرَكَّزَةِ بحزنٍ جعلني قلقا لأنَّ حركة الإنتاج ستتعطَّلُ لمدى بعيدٍ، لكنَّ ما أثارَ فرحي أنَّ نسائي السريات لن يصلحنَ للعشق، لما عرفتُ بطريقةٍ ما أنَّ إحداهنَّ أعلنت بشكل صريح على جدارها الفيسبوكي أنَّها ستقصُّ ضفيرتَها..؛ هكذا أذهبُ حزيناً لأنَّ العالمَ سيكفُّ عن الحياة من بعدي!
لكنَّ الحياةَ عادت إلى طبيعتِها في اليوم التالي، كأنَّ موتي كانَ مشهداً مؤثِّراً في فيلم، فخرَجَوا جميعاً: أهلي، أصدقائي، زملائي، ونسائي من المستشفى، كالخروج من دار السينما: بكاءٌ صادقٌ على البطل الذي ماتَ في مشهد فائض كان يمكنُ للمخرج الاستغناءَ عنه لمصلحة قبلة مع البطلة..؛ لم تحدث قبلتي؛ لأنَّ المخرجَ لم يعدل عن قراره، فما انتظرتني "البطلة" والممثلون كلهم اقتنعوا (بتسليم وإيمان)، بضرورة انصرافي. لم يسأل أحدٌ إنْ كنتُ سأعودُ، حتى المتفرجين اكتفوا بالتقاط دمعة واحدةٍ من طرف الجفن، وغادروا بدون انتظار كلمة "النهاية"..؛ ربَّما لأنَّني متُّ بإتقانٍ!
حركةُ المرور منسابةٌ ولا تشي بتكدُّر مزاج السائقين أو المشاة، كلهم يتعاونونَ حرصا على إطالة الحياة حتى آخر الطريق، والعشاقُ يتبادلونَ الحبَّ بعلنيَّةٍ وثمة إصرار على الزواج الصيف المقبل، وإنجاب أطفال يُبقونَ آباءَهم على ذكر الحياة وإنْ رحلوا..؛ لا أحدٌ يتأخَّرُ عن موعده، أو يفكّرُ للحظات بالاعتكافِ في غرفةٍ معتمةٍ، متسائلاً بفلسفة عقيمة:"لماذا لم تمت الحياة إلى الآن؟!"..؛ كلُّ شيء يجري بمواظبةٍ غريبةٍ على الحياةِ كأنَّها لن تأتي مرَّةً أخرى!
ما جعَلَني أذهبُ إلى الموت ثقيلاً أنَّ زوجتي وأبنائي ووالِديَّ وأصدقائي وزملائي ونسائي السريَّاتِ، كلهم استعانوا بـ"نعمة النسيان" حتى يأتي ذكري موارباً سلساً، مقروناً بدعاءٍ صادقٍ لي بالرحمة، ثمَّ مارسوا العيشَ قانعينَ: أبي اكتفى بأنْ يكونَ "أبو المرحوم"، وأمِّي (التي لم تعد متأكدة أنِّي ذاهبٌ إلى الجنَّة) دعت الله أنْ يُطيلَ عمرها حتى تذهب إلى الحجِّ باسمي، وزوجتي ليس يعنيها في الخمسين أو أكثر أنْ تكونَ زوجة غير فاعلة أو أرملة!
أبنائي ذهبوا إلى شؤونهم ولم يختلفوا مَنْ سيُطلقُ أولا اسمي على ابنه البكر، وحركةُ الإنتاج في العمل لم تتوقف سوى دقيقةٍ واحدةٍ لقراءة الفاتحَةِ على روحي..؛ أصدقائي فقط كانوا يتذكرونني بمنتهى الامتنان..، فقد تقاسموا بإنصافٍ نسائي السريَّات!
أخذَني الموتُ وقتما شاءَ وأعادَني لأنَّني استوفيتُ حقَّهُ بالكامل؛ لم أمُتْ بل كان مجرَّدَ تمرين وهمي، وعدتُ بالتدريج إلى الحياة. لستُ غاضباً، كلُّ ما أرجوه من الموت، عندما يأتي ثانيَةً، أنْ يتذكَّرَ حقي عليه: أنْ أموتَ على طريق صحراوي بعيد لا يَبْلغَني فيه بكاءُ زوجتي وأبنائي ووالِديَّ وأصدقائي وزملائي ونسائي السريَّاتِ!

[email protected]