حقّ تقرير المصير..!

من رديء المصادفات أن يأتي عيد الفطر هذا العام متزامناً مع الذكرى الثانية والخمسين لحرب الأيام الستة التي ضيّعت باقي فلسطين، وختمت على الهزيمة النهائية للعرب أمام الكيان الصهيوني. ولَم تتعافَ النفسية العربية بعد كل هذه العقود من تأثيرات تلك الأيام المصيرية حقاً، والتي ما تزال تلقي بظلالها على أدقّ يوميات أهل المنطقة من المحيط إلى الخليج.اضافة اعلان
لا يقتصر الأمر قطعاً على تذكر العرب، في أيام العيد بالتحديد، بهزيمة 1967 المُرة، وإنما تلف المنطقة كلها غيوم قاتمة وحاضر ومستقبل خاليان من اليقين. بالإضافة إلى المخطط الأميركي لفرض الكيان على العرب، كنتيجة منطقية لهزائمهم السابقة، كدّر مصرع الأشقاء السودانيين بالرصاص مشهد العيد، ويواصل اليمنيون المعاناة، وينتظر الجزائريين مستقبلٌ مجهولٌ، ويئنّ اللاجئون من العَوز والاغتراب، ويغرق البقية في الأزمات السياسية والاقتصادية والتناقضات المحلية والإقليمية. ولو بحث المرء عن نقطة إشراق واحدة في المنطقة، لأعياه البحث. ولعل السبب الوحيد للاحتفال في هذه الأنواء التي تتقاذف المراكب الفردية والجمعية، هو ما قاله الشاعر: "ما زِلتُ حياً، ألفُ شكرٍ للمصادفة السعيدة"!
قبل أيام، قال جاريد كوشنر، مستشار ترامب للسلام في الشرق الأوسط، إن الفلسطينيين يستحقون تقرير المصير، لكنهم ليسوا قادرين على حكم أنفسهم بعد. وما لم يقله كوشنر، لكننا نعرفه، هو أن الشعوب العربية كلها محرومة من الحق في تقرير المصير، وأن أقدارها تصاغ على أساس أنها غير قادرة على حكم أنفسها بعد أيضاً. وتشهد على ذلك كمية الحريات المصادرة، والقيود المتراكبة المفروضة على الأفراد والمجتمعات، وندرة الخيارات. وتظهر التجربتان الأخيرتان، الجزائرية والسودانية، مدى اليأس الذي وصل إليه المواطن العربي. فعلى الرغم من النهايات المفجعة التي أفضت إليها تجارب العرب الآخرين الذين جربوا استيلاد "الربيع" من هذا القفر المجدب، ما يزال الآخرون يُجرِّبون ويقفون أمام بنادق العسكر بالصدور العارية. وربما ليس هناك مكان آخر في العالَم يضمُّ هذا العدد من الأفراد القابلين لتجنيدهم كمفجرين انتحاريين.
أياً تكن العناوين الفرعية التي يخطها المحتجون في الميادين العربية على يافطات الاحتجاج، فإنهم يطالبون في النهاية بالحق المصادر في تقرير مصائرهم وحكم أنفسهم. ومهما يكن ما تقوله الولايات المتحدة وأمثالها، فإنهم يكافحون بالضبط لإبقاء الأمور على هذا النحو. كما تعتقد القوى الحاكمة بالحديد والنار في المنطقة أيضاً بأن شعوبها ليست ناضجة بما يكفي لتقرير مصائرها أو حكم أنفسها. ولذلك، يقنع كل حاكم متشبث بالسلطة نفسه بأنه الضامن الوحيد لعيش هؤلاء الناس "غير المؤهلين لاتخاذ القرار"، وأنّ الدنيا ستخرب من بعده.
لقد كسرت هذه المنطقة المعقدة المفهوم الكوني عن حتمية انتصار الخير على الشر وغلبة الحق على الباطل. وفي حين أن الثورات جلبت في الأماكن الأخرى الحرية والتقدم للجموع – ولو خالطتها الفوضى والاضطراب، فإن الثورات الجماعية هنا يركب على أكتافها أفراد أو قوى يظنون بدورهم أن الجموع لا تعرف مصلحتها، وينفردون عنها بالقرار ولخدمة المصالح الضيقة.. ولعل الثورات الوحيدة الناجحة هي انقلابات العسكر على العسكر– أو على المدنيين. وقد أفضت عقود من انتزاع أدوات الاختيار والتأثير من أيدي الشعوب إلى حرمانها من الخيارات والبدائل. وكان حراك "الربيع العربي" من أعظم الثورات في التاريخ، من حيث عدد المشاركين ومستويات التضحية. لكنه قوبل بثورة مضادة شرسة شنتها قوى اشتغلت على تعظيم قواها عقوداً، يعضدها بأساطين القمع العالميين، لتكون طباقاً لعشرة مسلحين يخضعون ألف مدني أعزل بسلطة السلاح ومهارة المكر.
إذا كان الفلسطينيون يناضلون من أجل تقرير مصيرهم وحكم أنفسهم المصادر بسبب الاحتلال، فإن العرب كلهم يناضلون الآن من أجل نفس المطلب. ويعني هذا أن "الاحتلال" ليس خبرة فلسطينية حصرية – ولو اختلف الشكل. ففي النهاية، سيكون اختطاف الحريات، وإعدام الإمكانيات، وإسكات الأصوات، وتهميش الأغلبيات، أعمالاً احتلالية بتطابق النتائج.
لكنّ عدم استسلام الفلسطينيين، والتضحيات الهائلة التي تبذلها الشعوب العربية التي اعتقد كثيرون أنها أُخضعت للأبد، تعني أن هناك صراعاً مستمراً غير محسوم، ومنطوياً دائماً على احتمالات تغيُّر الموازين. والتحذير لكل القوى المغترَّة بأدواتها، أنها لن تكون في مأمن ما دامت تعتدي على الحق الإنساني الأساسي في التخلص من العبودية والمشاركة في تقرير المصير.