حمارنة.. ذاكرة منتظمة تسرد وتوثق التراث الشعبي - فيديو

واجهة بيت عبلة حمارنة الذي يعود بناءة إلى العام عام 1904
واجهة بيت عبلة حمارنة الذي يعود بناءة إلى العام عام 1904

منى أبو صبح

مادبا- شخصية محملة بعبق التراث.. مسيرة حياة غنية بالتجارب والخبرات، تمتلك ذاكرة منتظمة.. لا يمكن للجالس أمامها سوى الإصغاء.. بل الاستمتاع بكل كلمة تقولها أو قصة تسردها أو شعر تردد أبياتا منه، هي السيدة المكافحة من مدينة مادبا، عبلة إبراهيم حمارنة.اضافة اعلان
الكاتبة والروائية حمارنة اتخذت لها طريق الإبداع في أرشفة الذاكرة الشعبية الأردنية، سواء في مؤلفاتها التي تناولت جوانب مختلفة من هذا الإرث أو عبر احتفاظها بعبق الماضي من الطابع العمراني الذي يحمل منزلها العتيق في مدينة مادبا الذي تم بناؤه العام 1904 على الطراز الشعبي الحجري القديم.
ويتميز البيت بإطلالة ساحرة، تصميم السقف من العقود القديمة.. تتزين جدرانه وأركانه باللوحات التذكارية والدروع والأوسمة التي حظيت بها حمارنة، إلى جانب شجرة العائلة والقطع التراثية المتعددة.. وأيضا صور لأفراد عائلة حمارنة التي اشتهرت بالعلم والثقافة.
تفرغت حمارنة لكتابة الأغاني الشعبية بعد إحالتها على التقاعد، فقد أصبح لديها مزيد من الوقت استغلته في توثيقها.. خصوصا وأنها تمتلك ذاكرة منتظمة خزنت الأغاني الشعبية الأردنية كافة التي رددت على مسامعها في السابق أثناء حضورها المناسبات، حيث كانت وصبايا الحي يعدن غناء ما سمعن لدى عودتهن لبيوتهن.
حفظت حمارنة الأغاني الشعبية المتعددة طوال سنوات مضت.. وبدأت بجمعها وتدوينها في كتاب أغانينا الأردنية مثل “نبع المية”، “برجاس يا عود القنا برجاس” كلماتها:
وإحنا الأردنيات بالدبوس.. عَ صيت أهلنا رافعات الروس.
وإحنا أردنيات بثياب الحبر.. ورجالنا قدامنا هم الوزر.
وإحنا الأردنيات بالشنابر.. ورجالنا قدامنا أكابر.
قوموا إلعبوا شبابنا يا إملاح.. ما تلعبوا إلا بدق إرماح.
تحن وتفتقد الباحثة حمارنة للزمن الجميل، بقولها: “كنا نترقب الأعراس وننتظر قدومها بفارغ الصبر، فهي مصدر الفرح والبهجة والمحبة.. نقضي ونعلل سبع ليال.. داخل المنزل.. الساحة.. بيت الشعر.. ثم تقام أيام (الجراه) وهي الأيام التي تلي العرس، يتم بها دعوة الأقارب والجيران والمعارف، أيام جميلة فيها بركة وخير”.
تقول حمارنة: “قمت بتدوين هذه الأغاني بمفردي بدون مساعدة من أحد، وهذه الأغاني جزء من تراثنا علينا الحفاظ عليه.. فالإنسان بدون تاريخ بدون جذور، وتراثنا هو جذورنا.. أردت في هذا الكتاب تعزيز الشعور الوطني وتعزيز الأواصر التي تربط بين أبنائنا من خلال أجيال متعددة”.
صدر أول كتاب لحمارنة في الشعر تحت عنوان “على دروب الحياة”، وصدر لها أيضا “قصص واقعية تروى” علقت بذاكرة الباحثة أثناء توالي الضيوف (البدو) على منزل والدها وسردهم العديد من القصص والحكايات الشعبية الشهيرة، وفي الوقت ذاته استطاعت حمارنة أن تجمع 600 مثل شعبي وتدوينه، إلى جانب كلمات تراثية وصل عددها إلى 2200 كلمة، ولديها مخطوطتان تراثيتان.
تبين حمارنة أن المحيط الذي تعيش به غني جدا بالقصص والمواقف الخالدة لأصحابها، فتذكر قصة الشيخ توما حمارنة شقيق زوجها، وتلخصها بالقول: “كانت هنالك خمس فتيات ولديهن أخ وحداني حكم عليه بالسجن المؤبد.. وقصدت الشقيقات العديد من الناس للتدخل في أمر العفو عن شقيقها لكن بدون فائدة، إلا أنهن استدللن على الشيخ توما”.
وتردف “وفاجأنه بالمجيء لبيته والجلوس على طرف فراشه، وهن بمثابة (الدخيلات) بفعلتهن هذه.. وبعد استماعه لهن لم يتردد بالذهاب إلى جلالة المرحوم عبدالله الأول، ووضع العقال أمامه وطلب منه الصفح عن الفتى.. ولم يرده خائبا وأعاده لشقيقاته”.
وعلى صعيد آخر، خصصت الباحثة حمارنة كتابا للأطفال عنوانه “أغانينا الشعبية لأطفالنا أحلى هدية” اشتمل على العديد من المقاطع الجميلة منها: “عيد الأم”، “لعبة الحجلة”، “زقزقة العصفور”، “العيد”، “بليبله يا بليبله”، “عمي سلامة”، “أغنية المدرسة”، “عايدة الكسلانة”، “أغنية درس قمح البيدر”، “أما قلبي يا عيوني”، “دق دق دق”، “تك تك يا أم سليمان”، “لعبة الأصابع”، “ديك العيد المحشي”، “الذهاب المبكر إلى المدرسة”، “مسيكوا بالخير” و”النحلة”.
كاتبة التراث حمارنة من مواليد مادبا العام 1934، تزوجت صغيرة السن، أكملت تعليمها للصف السادس الابتدائي العام 1950، ثم واصلت التعليم على فترات متباعدة رغم الظروف السيئة التي أحاطت بها، لكن الطموح والحافز كانا كبيرين مما جعلها تحظى بشهادة البكالوريوس في العلوم التربوية العام 1991.
ثلاث حوافز دفعت حمارنة لإكمال تعليمها تحدثنا عنها: “الحافز الأول كان من خلال زيارتي مدرسة ابنتي؛ حيث انتخبت كنائب لمجلس أولياء الأمور والمعلمين حينها.. وعليه قام مدير التربية والتعليم حينها باستدعائي وطلب مني إلقاء كلمة ترحيبية بمعالي الوزير.. وهنا تسلل الفرح والفخر بنفسي، وعقبها طلب مني تقديم امتحان الثانوية العامة في المنزل للحصول على الشهادة”.
وأضافت “الحافز الثاني.. عندما أجابني (سمير عجيلات) أحد الطلبة المتفوقين في الصف الذي أدرسه وطلبت منه تعديل ما كتب؛ حيث قال: “ليش شايفة حالك أنا بكبر وبصير أما أنت فستبقين كما أنت”، فهو يعلم بأنني لم أتلقّ التعليم سوى للصف السابع الابتدائي، أما الحافز الأخير فكان حلما يراودني كل ليلة بوصولي إلى الامتحان متأخرة.. وكأنها إشارة ومنبه لضرورة إكمالي دراستي”.
حمارنة ناشطة اجتماعية ما تزال في قمة عطائها، لم تتوان عن أي عمل خيري أو تطوعي.. فأصبحت رئيسة جمعية الشابات المسيحيات لدورتين، وأمينة صندوق جمعية الشابات المسيحيات لأربع دورات، ونائب رئيسة الاتحاد النسائي لدورتين، وأمين سر لجنة الخدمات الإنسانية، وأمين سر أصدقاء بنك العيون والوقاية في فقدان البصر لدورتين، وأمين صندوق الاتحاد النسائي في مادبا، وأمينة سر المجلس الأعلى للجمعيات المسيحية في الأردن، عضو في جمعية مكافحة السرطان.
وحول الطرائف التي واجهتها حمارنة في حياتها وما زالت تذكرها، تروي ما حدث لها مع وزير التربية والتعليم الراحل ذوقان الهنداوي؛ حيث كان لها موعد مع الوزير لإجراء مقابلة عمل للتعيين في الوزارة، فرفض السكرتير أن يدخلها.. هنا أصيبت بالغضب، ولم يكن منها سوى إحضار ورقة وقلم اشتكت بها بقولها:
سكرتير الوزير علينا مهـلا     فان العون من صفة الكريم
اراك موزع النظرات تبغي     مرور الوقت عالشعب الكريم
لماذا يا اخي ترضى انكسارا    لمن لا ترضى بالشيء الذميم
محال لن اهون لغير ربـي      مساوي الناس في جبل الأديم
ثم توجهت للمراسل وطلبت منه أن يدخل بالورقة للوزير شخصيا، فما كان من الوزير إلا أن قام بإدخالها فورا، وتعيينها فيما بعد، كما أنه قام بنقل السكرتير الى قرية بعيدة، حسب قول حمارنة.
من خلال مسيرة الباحثة حمارنة وحوارها، تؤكد أن الحفاظ على التراث مسؤولية وجهد ينطلق من إيمانها بأهمية بقاء الفلكلور صامدا في وجه الحداثة والتطور، وعليه قررت البحث عن مكنونات التراث وجواهره الكلامية وتوثيقه.