حوارية مرعبة!

قبل أيام قليلة شاهدت إعلانا عن حوارية تنظمها مؤسسة
عبدالحميد شومان حول مافيات البحث الأكاديمي والعلمي، ولكون اهتمامي الأساسي هو في قطاع التعليم ككل فقد وضعت منبها كي لا تفوتني متابعة الحوارية.اضافة اعلان
في الحقيقة كنت مهيأة نفسيا لكي أسمع مصائب وكوارث عديدة من المشاركين في هذه الحوارية، فأنا وبحكم اهتمامي وأيضا بحكم تجربتي الأكاديمية في الحصول على درجتي ماجستير اطلعت على كثير من الأمور السيئة التي تسهم في تردي واقع البحث الأكاديمي والعلمي لدينا.
لكن.. ليت الأمر توقف عند ما أعرفه، فما تم الحديث عنه في هذه الحوارية كان مرعبا جدا، وينسف أساس المجتمع الأكاديمي، وجهود تطوير التعليم العالي، ويضع نقطة لن نتعداها في مجال البحث العلمي الذي نضحك فيه على أنفسنا ونقول دائما إننا نسعى إلى تطويره وتحسين مخرجاته.
المشاركون الثلاثة ومدير الحوار المبدع، حشدوا جميع الأمثلة لكي يقولوا لنا ويؤكدوا أن واقع التعليم العالي ليس بخير، وليس فقط البحث العلمي وإنما المجتمع الأكاديمي برمته، فحين نتحدث عن أكاديميين “يتكاسلون” في التدقيق بالبحوث والرسائل التي يقدمها طلبتهم، وفي إشرافهم بشكل حقيقي على الرسائل التي يعينون للإشراف عليها فسيكون ذلك جريمة بحق البحث العلمي وبحق الطلبة أنفسهم.
تلك مسألة هامشية، اذا ما علمنا أن أكاديميين يتورطون في كتابة رسائل أكاديمية بالتعاون مع مكتبات تبيع تلك الرسائل، لا لشيء وإنما فقط لتحسين مداخيلهم، وكأنما مثل هذا العمل شريف ومباح وأخلاقي. هل من الممكن أن نتصور سقوطا أخلاقيا أكثر من ذلك؟
الأمثلة والشواهد التي جاء بها المتحدثون كثيرة ويصعب حصرها في مقال سريع، لكنهم لم يتوقفوا عندها بل تعدوها نحو الاختلالات الموجودة في هذا السياق. نعم، هناك تشوه واضح في بنية البحث العلمي والأكاديمي نفسها وهذا التشوه يطال مسألتين أساسيتين فيه؛ أولاهما تدريس هذا المبحث، والثانية تطبيقه بأمانة وهو شرط قائم على الأكاديمي نفسه، يستوجب أن يكون ملتزما فيه بأساسيات البحث العلمي وبأخلاقياته كذلك.
في سياق مثل هذا لابد أننا ندرك أن جميع مفاصل عملية التعليم لدينا لا تعزز مهارات البحث العلمي، ففي مراحل التعليم قبل الجامعي يندر أن تجد مدرسة تحاول أن تعرض طلابها لمثل هذه المهارات، وإن وجدنا فهي قليلة جدا، وهي في الغالب مدارس دولية وليست وطنية.
في مرحلة التعليم الجامعي يتفاجأ الطالب بأنه ملزم بإجراء بحوث معينة لكي يتقدم في المساقات. وهنا يعتمد الأمر على الأكاديمي وكيفية تمكينه الطالب من مثل هذه المهارة، أو تجذير فكرة الانتحال لديه، ما يحيلنا إلى الشرط الآخر الذي لا يقل أهمية، وهو نوعية الأكاديمي الذي ينبغي له أن يطبق أساسيات البحث العلمي مع طلبته، فلا يمكن أن نتذرع بتدني مستوى دخول بعض الأكاديميين لنبرر لهم سقوطهم الأخلاقي.
وأيضا لا يمكن أن نبرر لطلبة الدراسات العليا سقوطهم في شراء الأبحاث بسبب مشاغلهم، وهنا أختلف جذريا مع الدكتورة عالية الغويري في هذا الامر، فطالب الدراسات العليا يفترض به أن يكون باحثا حقيقيا لا أن يكون مجرد طالب يجتهد لتخطي الفصول والمساقات. تبرير خطير هو الذي حاولت تسويقه الغويري فهو تماما يذكرنا بالمبدأ الاساسي في الميكافيلية؛ الغاية تبرر الوسيلة. هذا الامر ليس مقبولا ولا ينبغي أن يكون مقبولا.
الأمر الآخر الذي يشكل حلقة أساسية في العملية هو لجان مناقشة الرسائل الأكاديمية ومدى أهلية أعضائها لأداء دورهم من جهة، وإخلاصهم بأداء هذا الدور من جهة أخرى من خلال إجراء مناقشات جادة تفضي بالفعل إلى غربلة الرسائل الأكاديمية وكشف المنتحل منها أو ما لم يأت بجهد خالص من الطالب، وأيضا تحسين المخرج النهائي لتلك الرسائل.
الدكتور حسن البراري، الدكتور مهند مبيضين، الدكتورة عالية الغويري، والإعلامي محمد الجغبير، ومؤسستنا الوطنية الرائدة الغيورة على البحث العلمي ونهضة مجتمعنا مؤسسة عبد الحميد شومان، شكرا كثيرا لأنكم أهديتم لنا عيوبنا الصارخة.
شكرا لأنكم وضعتمونا أمام المرآة بمواجهة سوءاتنا بلا أي مكياج او ستار.
لقد علقتم الجرس. لكن، من سيأخذ على عاتقه أن يكون غيورا مثلكم فعلا ويمنح التعليم العالي والبحث الأكاديمي والعلمي فرصته ليتطور سواء من خلال تعزيز الثقافة البحثية أو من خلال التشريعات التي تحافظ على أخلاقياته وقدسيته؟.