حول "الفساد" السلفي!

شهدت الحركة السلفية انتشاراً محلياً واسعاً منذ منتصف عقد الثمانينيات، وساهمت عوامل متعددة في صعودها واحتلالها مكاناً متقدما في "سوق الجماعات الإسلامية" في الساحة الاجتماعية، على وجه الخصوص.

اضافة اعلان

السلفية لم تتقدم إلى اللعبة السياسية بصورة مباشرة، كما هي الحال في الكويت مثلاً، إلاّ أنّها أصبحت مؤثرة بصورة ملحوظة على الخطاب الديني في المجتمع، ولها من الأنصار ما يوازي، وربما يفوق، أكبر الجماعات الإسلامية "الإخوان المسلمين". فضلاً أنّ الفتاوى الفقهية والعقدية والأفكار السلفية وجدت طريقاً سهلة إلى الشارع، واحتلت الفراغ الناشئ عن "محدودية" النشاط الفكري والعلمي الإخواني، وضعف المؤسسة الدينية الرسمية، وللدعم المالي الذي ساهم في نشر "الأدبيات السلفية" خلال السنوات السابقة.

بالطبع؛ ليس من السهولة تصنيف الجماعات والاتجاهات السلفية في البلاد، وإن كان الاتجاهان الرئيسان هما؛ الاتجاه الراديكالي "الجهادي"، وهو اتجاه يقوم على تكفير الحياة السياسية بصورة عامة، ورفض المشاركة فيها، وعلى تقديم خطاب سياسي تراثي منغلق. وفي المقابل هنالك الاتجاه الذي نطلق عليه -أردنيا- "الاتجاه السلفي التقليدي" (أو الألباني)، ويطلق عليه في المغرب "السلفية السلطوية".

تقوم مقاربة السلفية "التقليدية" في المجال السياسي على قواعد رئيسة؛ أبرزها أنّ الحكومات الحالية هي بمثابة "ولي الأمر" الذي يجب أن يطاع، ولا تجوز معارضته أو الخروج عليه، وإذا كانت هنالك ملاحظات فيجب أن تتم في "السر" على صيغة نصيحة خاصة. كما تقف السلفية التقليدية موقفاً معارضاً للحزبية السياسية ولها موقف متحفظ من الديمقراطية وقيمها الحداثية.

الملمح الأبرز لهذه السلفية أنها تتبنى ما يعرف في أدبياتها بـ"التصفية والتربية"، أو الانخراط في تصحيح العقيدة والشريعة من "البدع" و"الضلالات" وتربية الأجيال على ذلك، ومن العبارات المشهورة عن شيخ هذا الاتجاه ومؤسسه في الأردن، ناصر الدين الألباني (الذي توفي قبل سنوات) "من السياسة ألاّ نتحدث في السياسة".

المقاربة السابقة، انعكست -بالضرورة- على علاقة الدولة بهذا الاتجاه. فعلى النقيض من الجماعات الإسلامية تميّزت علاقة هذا التيار بالدولة أنها جيّدة، تقوم على فتح الأبواب مشرعة له في المساجد والوعظ الديني، إذ أنه من الناحية السياسية والأمنية لا يشكل إزعاجا، كما هي الحال في جماعة الإخوان أو "السلفية الجهادية". فحظي هذا الاتجاه بفرص قوية وذهبية للعمل والنشاط في البلاد، ما ساهم في تجذيره وتعزيز وجوده.

معضلة خطاب هذا الاتجاه وممارسته أنه في طبيعته وبنيته معادٍ للحداثة الاجتماعية والسياسية، وتمتاز مواقفه الفكرية والفقهية بالتقليل من مشروع إعمال الفكر والعقل ومطلب الإبداع والتجديد والاجتهاد، فيركز في خطابه الديني على قضايا بعيدة عن المنحى الذي نطمح إليه من وجود تيار إسلامي تقدمي حضاري نهضوي، ينطلق من إدراك المقاصد العامة للشريعة الإسلامية وروحها.

ثمة حاجة إلى إدارة "الحياة الدينية" في البلاد نحو الدفع بها إلى منحى يعزز من الدور البنّاء للدين في إدماج الإنسان المسلم بعصره ومقتضياته وفي خلق المسؤولية المدنية والأخلاقية لديه. أمّا الاتجاهات الدينية "الجامدة"، فحتى لو كانت مقبولة في المقاربة "الأمنية" إلاّ أنّها على المستوى الاستراتيجي تعزز من وجود "نخب دينية" نافدة اجتماعياً وثقافياً، تقدّم إدراكاً دينياً لا يتفق مع ما تسعى إليه الدولة من تقديم نموذج إسلامي عصري يجد قاعدته في الداخل ويمتد إلى الخارج ليمثّل واجهة حضارية للدولة.

بعيداً عن هذه المقاربة السياسية والأمنية؛ فمن الخطأ توفير "حصانة" مبالغ فيها للتيار السلفي التقليدي، أو التجاوز عن قضايا ذات بعد قانوني مرتبطة ببعض مؤسساته، إذ يقتضي التعامل معها كما تمّ التعامل مع باقي مؤسسات المجتمع المدني الأخرى، بخاصة ما يتعلّق بـ"شبهة الفساد"، كما حصل في التعامل الرسمي مع جمعية المركز الإسلامي سابقاً، أو مع بعض الجمعيات الخيرية مؤخراً.

مناسبة هذا الحديث؛ تلك الخلافات التي بدأت تبرز داخل نخب هذا التيار، والتي تقوم على اتهامات متبادلة خطرة باختلاسات مالية كبيرة في بعض المؤسسات التي يقوم عليها هذا التيار، لأموال قادمة من الخارج، فهذه الاتهامات تستدعي المساءلة القانونية للمتّهِم والمتّهَم، ما يقتضي تدخل أجهزة مكافحة الفساد، إذا اقتصى الأمر.

والمفارقة اللافتة أنّها ليست المرّة الأولى التي يتم فيها الحديث عن فساد داخل هذا التيار، فقد سبق ذلك حديث عن "فساد علمي" وسرقات أدبية، وقد كتب في هذا المجال داخلياً وخارجياً.

لا أحد فوق القانون، ولا تنزل "الخطوط الحمراء" إلى مستويات متدنّية. والمسألة مرتبطة بصيانة سمعة الدين وهيبته وقيمه وحماية مؤسسات المجتمع المدني. ولن تكون هنالك أية خسارة بالتعامل بشفافية واضحة مع هذا الموضوع.

[email protected]