حين ضحك درويش و"طلعت الصورة حلوة"

حين ضحك درويش و"طلعت الصورة حلوة"
حين ضحك درويش و"طلعت الصورة حلوة"

 

يوسف الشايب

رام الله- "اضحك..الصورة تطلع أحلى"..قلتها ذات يوم، قبل أكثر من ست سنوات لـ"لاعب النرد" الباقي فينا. رمقني بنظرة خاطفة مستهجنة:"كيف لي أن أضحك وأنت تسيطر على ثلاثة أرباع المشهد في الصورة المفترضة". ضحكنا جميعاً: أنا، وهو، وصديقنا غسان زقطان، الذي تولى مهمة ليست له، ولا يتقنها، لكن لا خيار أمامي، إلا هو لالتقاط الصورة. ملأنا مكتب درويش بمركز خليل السكاكيني قهقهات أثارت فضول البعض في المكاتب المجاورة.

اضافة اعلان

الصورة التالية؛ خلال ثوان تنحيت قليلاً، وطلبت من غسان أن تكون "كلوز" أكثر. ضحك درويش من قلبه، وضحكت حين التقت الأعين تناصفنا الحيز تقريباً، وكانت الصورة العنوان.

ما قبل اجتياح نيسان (إبريل) الكبير، الذي حطم فيه جنود الاحتلال ببساطيرهم الخوف داخلي، بقليل.. كان اللقاء الأول..كانت لدرويش أمسية شعرية، هي الأولى التي أحضرها له في رام الله، احتضنها مسرح وسينماتك القصبة.

آنذاك نثر وروده فيها كعادته، وكان بلسماً على جراح المتخمين بعذابات الحواجز العسكرية، والاجتياحات "الصغيرة" آنذاك، ورائحة الرصاص.

أوكلت لي المهمة الصعبة بالكتابة عن الأمسية الدرويشية.لأول مرة أشعر أنني لم أفكر، انتصرت، كعادتي في المواقف الصعبة لإحساسي، جعلته يتدفق ليس حبراً على ورق، بل كلمات بفنط "12" على شاشة الكمبيوتر.

"محمود درويش..سلاح دمار شامل ضد الإحباط واليأس"، كان العنوان الذي جعلني أشعر بنشوة عاشق تمكن أخيراً من الظفر بمحبوبته، بعد أن كانت قاب قوسين أو أكثر من إتمام مراسيم زفافها على ابن عمها الذي لا تحبه.. بنشوة طفل تمكن بعناء أن يصعد إلى مستوى التلفزيون الذي يعلوه بأمتار، متسللاً، ليخطف حبة حلوى، كانت أمه أبعدتها عنه عنوة، "خوفاً على أسنانه"، بعد أن استعان بأكثر من كرسي.

"هذا هو" صرخت داخلي، أجل هو العنوان الذي يعكس أكبر قدر من الأحاسيس تجاه الأمسية التي خلقت فينا ومنا أناساً مختلفين، أكثر بهجة، وأكثر اتساعاً، وأكثر ألقاً، وحكمة، وجمالاً.

استوطن العنوان، وما تلته من كلمات، موقعاً مميزاً فوق تلة في الصفحة الأولى، لجريدة "الأيام"، موطني الأول.. ما زاد نشوتي نشوات.

في اليوم التالي لنشر التقرير، وبعد ردود فعل أكثر من إيجابية، كان اللقاء ..أجل إنه القامة الكبيرة.. ليس سراباً..إنه "سلاح الدمار الشامل" .. درويش هناك في الصف الأول لقاعة "القصبة" بجانب الروائي يحيى يخلف، وزير الثقافة آنذاك، اقتربت ببطء من الجمع، صافحت يخلف بحرارة، احتضنت درويش بعينيّ، ترددت في رفع يد تجاه يده، خاصة بعد أن تسمّرتُ أمامه لثوان، حجبت فيها عنه المشهد كاملاً، وسلبت جميع حيز بؤبؤيه الاثنين، قبل أن ينطقها الوزير برداً وسلاماً "هذا هو يوسف الشايب يا محمود"!

في رحلة الكلمات نحو أذني، كانت الصاعقة تتملكني درويش يسأل عني، لم أكن أعلم أنه ترأس تحرير مجلة "الجديد" في العشرين من عمره. تجرأت وصافحته وقتها، دنوت منه، ثم جلست القرفصاء.

أطلق سهاماً نافذة إلى القلب بعينيه الصافيتين، ضمني إليه بحنو كبير، قبل أن يطلق مداعبته التي أحدثت انقلاباً دراماتيكياً في المشهد الكلي لتلك اللحظات. "يا زلمة شو اللي عملته.. من امبارح والبرادعي بدور عليّ"!

زلزلنا من الضحك، كسر الخوف الذي لمسه في عينيّ، ورعشة يديّ، وتردد القدمين، والصمت المطبق، قبل أن ينطق بما هو مزلزل أكثر "برافو ..أنت صحافي بارع"، عقد لساني، تجمدت الكلمات رغم أن القاعة حارة بعض الشيء، كان عليه التجديف بالكلام، بعد أن لم أعد قادراً على دفع قارب الحديث إلى الأمام سنتيمتراً واحداً.

قام بالمهمة ببراعة، "ستكون صحافياً ذا شأن..هكذا أرى..سررت بلقائك، وأتمنى أن نكون أصدقاء"، كنت ماأزال أعتقد أنني، وكما يحدث في الكثير من الأفلام والمسلسلات العربية، سأصحو على صوت ابني الرضيع يصرخ جوعاً، أو على صوت المنبه الذي كثيراً ما يهشّم الأحلام الجميلة، لكنها الحقيقة؛ أنا فعلاً أمام درويش، في قاعة "القصبة"، ونستعد لانطلاق مراسم تأبين العملاقة فدوى طوقان، وهو قال لي ذلك فعلاً حبست دموعي بشق الأنفس، قبل أن أهمس بصوت مرتفع "مش عارف شو أحكي..هاي شهادة كبيرة كبيرة كبيرة كتير كتير كتير..أنا أسعد إنسان اليوم"، وانسحبت إلى الخلف، قبل أن تنطلق فعاليات الحفل التأبيني..ذكرى رحيل فدوى طوقان، كانت ولادة جديدة لي.

مع الوقت، بتنا نلتقي أكثر فأكثر، التقينا كثيراً، وكان لي فرصة أن أشاركه "العيش والملح"، هناك في مطعم "الفلاحة"، في "عين عريك" قرب رام الله، برفقه عدد من الأصدقاء. كان يعشق "المسخن"، ويحنّ إليه بين فترة وأخرى، وكان صاحب المطعم ونادله يعرفان جيداً ما الذي يحبه مقتفي "أثر الفراشة".

اختلط المسخن بقهقهات وأطراف حديث يتجاذبها هذا وذاك، وتحدثنا في أمور عدة: الشعراء الشباب..الأكل الفلسطيني والصيني والـ"جنغ فود".. هيفاء وهبي ونانسي عجرم وفيروز..عرفات، ومحاولات منع الرقص والفرح في قلقيلية من قبل بلديتها ذات الأغلبية الحمساوية، التي منعت عرض دبكة لفرقة براعم الدهيشة، في إطار فعاليات مهرجان فلسطين الدولي للرقص والموسيقى، تلك القضية الملتهبة وقتها.

خصني درويش بحديث هو الأول لي معه كصحافي. نعم أجريت حواراً مع درويش، والأهم أنه حوار حميمي وعفوي. أجاب على عديد أسئلتي، ومنحني مساحة اقتباس ما أريد مما قاله في اليومين اللذين كنا فيهما سوياً!

في اليوم التالي كان "المانشيت": "محمود درويش: ما يحصل في قلقيلية بوادر طالبانية"، قامت الدنيا ولم تقعد، وقفت على قدمي يمامة يتملكها الوهن، وتبدو عاجزة عن الطيران، وكالات الأنباء، والصحف العربية والعالمية الشهيرة تنقل تصريحات درويش التي خصني بها "يا الله..هذا العظيم ينقلني إلى مساحات جديدة".

تواصلت اللقاءات إلى أن عدنا إلى حكاية جديدة مع صورة جديدة، كان يحضر في قاعة مؤسسة عبد المحسن القطان في رام الله، ويتابع قراءات مسرحية لـ"ذاكرة النسيان"، قدمها فرانسوا أبو سالم، قبل أن يحولها لعمل مسرحي كامل، اقتربت منه، صافحته بحب تحدثنا سريعاً، قبل أن استأذنه في التقاط صورة لشقيقتي "المراهقة" معه، كانت هي المولعة بنجوم هوليوود، والـ"ستارز"، على حد تعبيرها، ترى في درويش قيمة عالية للغاية .. وترى في صورتها معه إنجازاً غير مسبوق مع عظيم تقرأ أشعاره في كتبها المدرسية، وتسمعها على ألسنة عمالقة الفن العربي، كمارسيل، وماجدة، وغيرهما.

كعادته، رمقني بذات النظرة التي اعتدت عليها، قبل أن يطلق مداعباته الساخرة المحببة: لو كان لديّ أخت جميلة لرفضت تصويرها مع أي كان، أو وقوفها بقربه..ابتسمت، "لكنك محمود درويش" قلت له، ابتسم وقال "حتى لو.." عاجلته:"ميتة وتتصور معاك"، نهض من مقعدة ضمها بحنان.. ابتسم مجدداً، و"طلعت الصورة حلوة".

في "السكاكيني" في الليلة التالية لوفاته، كانت الصورة الممتدة على طول جدار المبنى، الذي لا تزال رائحته تعبق في أروقته، "مش حلوة".. لم يكن مبتسماً، لربما الشارة السوداء المائلة في الطرف العلوي للبورتريه العملاق، تضايقه. نعم شعرت أنها كذلك فعلاً، المفجوعون الكثر برحيله يقتربون من الصورة، يلتقطون صوراً لهم معها، هو ليس مبتسماً، هم ليسوا مبتسمين، "ما طلعت الصور حلوة بالمرة".

رحل درويش..انتزع قطعة من قبل كل واحد فينا، ورحل..ليس ثمة صور "حية" أخرى، ولا ابتسامات، لكني ورغم ذلك سأبقى أقول لك "اضحك .. الصورة تطلع أحلى"!