حُبُّ الحرب..!

"من بين كل أعداء الحرية العامة، ربما تكون الحرب هي الأكثر رعباً، لأنها تحتضن وتطور جرثومة كل عدو آخر. الحرب هي والدة الجيوش؛ ومنها تنجم الديون والضرائب... وهي أدوات معروفة لجلب الكثرة تحت سيطرة القلة... لا يمكن لأي أمة أن تحافظ على حريتها في خضم الحرب المستمرة".اضافة اعلان
(جيمس ماديسون، الملاحظات السياسية، 1795)
*   *   *
لو – ولو أن "لو من عمل الشيطان"- تم إنفاق الأموال التي صُرفت في منطقتنا وحدها على الحروب والدمار في العقد الأخير، على شيء ينفع الناس، لتغيَّرت حتماً أقدار كل أهل هذه المنطقة وأجيالها القادمة. ولو تم إنفاق مخصصات الموازنات العسكرية والحربية في العالم على رفاه الجنس البشري، لما بقيَ في العالَم فقراء ومثكولون.
لكن الحرب شكلت دائماً جزءاً غير أخلاقي رائج من الخبرة البشرية. وحتى عندما كان سُكان الكرة الأرضية قلَّة، ربما حصة الواحد منهم قطعةً من قارة، فإنهم شرعوا في الاعتداء على الآخر لأخذ حصته من أي شيء. ودائماً ظل الجشع وما نسميها "فراغة العين" هي الكتاب الهادي للبشرية، من حوافز السلوك الفردي اليومي، إلى التكوينات المعقدة مثل سياسات الدول والتكتلات الكبرى.
حسب تنبؤات ميزانية الدفاع التي يعدها مركز "جين"، فإن "الإنفاق الدفاعي العالمي في العام 2018 سيكون نحو 1.76 ترليون دولار". وهو رقم هائل تنفقه الدول لأحد شيئين: الخوف؛ أو الطمع! وفي المقابل، يقول موقع منتدى السياسات العالمية: "تنفق الأمم المتحدة وجميع وكالاتها وصناديقها نحو 30 مليار دولار سنوياً، أو نحو 4 دولارات لكل واحد من سكان العالم. وهو مبلغ يقل عن ثلاثة في المائة من الإنفاق العسكري العالمي. وقد واجهت الأمم المتحدة منذ ما يقرب من عقدين من الزمن صعوبات مالية، واضطرت إلى تقليص برامج مهمة في جميع المجالات... ولم تدفع العديد من الدول الأعضاء كامل مستحقاتها، وخفضت تبرعاتها لصناديق الأمم المتحدة الطوعية. وفي (نهاية العام) 2010، تخطت متأخرات دفعات الأعضاء للميزانية العادية 348 مليون دولار، منها 80 % مستحقة على الولايات المتحدة".
ويعني هذا أن الضمير العالمي لا علاقة له بالعمل الخيري والسلمي قياساً إلى عنايته بصناعة الدمار والنهب والإفقار المتعمد للغالبية العظمى من سكان الكوكب. وحسب "مؤشر السلام العالمي"، فإن "حوالي 2.4 تريليون دولار (1.5 تريليون جنيه استرليني)، أو 4.4 % من الاقتصاد العالمي تعتمد على العنف. بمعنى الصناعات التي تخلق أو تدير العنف- أي صناعة الدفاع".
"الدفاع" نفسه مفهوم تتلاعب به المنظومات العدوانية بطبيعتها. وعلى سبيل المثال، يسمي كيان الاحتلال الوحشي في فلسطين جيشه "قوات الدفاع الإسرائيلية". وهو "دفاع" حقاً، وإنما عن كل ما لا يجب الدفاع عنه، من الاحتلال إلى احتراف قتل المدنيين العزل إلى الاشتغال بإلغاء شعب كامل والاستيلاء على حصته من العالَم. وكذلك حال حروب الولايات المتحدة الخارجية العدوانية وعملياتها المختلفة لدعم الدكتاتوريات وقمع الحريات وإدامة الهيمنة. وقبلها النشاط الاستعماري الإمبريالي كله الذي لَم يدافع عن أي قيمةٍ غير استعباد الآخر وخدمة الذات.
على مستوى المجتمعات، هناك دائماً الـ(1 %) الذين يخوضون الحروب بطريقتهم للاستيلاء على أكبر قدر من الثروة على حساب مواطنيهم، ويشكلون مع نظرائهم من الجشعين الـ1( %) الذين يستأثرون بحصة (99 %) من الآخرين. والوسيلة دائماً هي العنف بمختلف مستوياته، من الحرب الفيزيائية إلى الخداع إلى العبث بالمفاهيم والتعريفات لتبرير السقوط الأخلاقي. ومن المحصلات الضرورية لذلك زراعة ورعاية مختلف الاتجاهات الضارة، مثل "العنف" و"التطرف" و"العدوانية" التي تكون في كثير من الأحيان رد فعل على الظلم وليست طبيعة أصيلة في أصحابها، لكنها تكون مبرراً أيضاً للمزيد من العدوانية كما يحدث فيما تسمى "الحرب على الإرهاب".
باختصار، أصبح الإنسان المعاصر في حالة حرب يومية هو ضحيتها النهائية. والمفارقة أن بالوسع – نظرياً- شن "حرب" مختلفة قد تجلب نفس النتائج: مثلاً، لو صُرفت ترليونات أميركا على النهوض بالأمم التي دمرتها بالحروب، لأصبح مواطنوها موالين محبين بلا طلقات. لكنَّ هناك متعة على ما يبدو في الاستئثار هي التي تسوق البشرية إلى الدمار!