خالتي قماشة!

فتاة في أوائل عمرها العشرين مرتعدة الأطراف، تسير على غير هدى وبارتباك واضح للجميع في السوق، تجر أمامها عربة تسوق شبه فارغة وتجرجر وراءها طفلا ممسكا بطرف جلبابها، يبدو أنه تعلم المشي قبل أيام معدودة. هي لا تكترث للصغير المترنح خلفها كما البندول المعطل، ولا للناس المتحلقين حولها والسائرين وراءها ليس بالصدفة كما يدعون، بل ليستمعوا لبقية الحكاية التي تعبر عنها توسلات أحيانا وبكاء أحيانا أخرى، وأمام الملأ، مرددة جملة واحدة: "يا عمتي اسمعيني، يا عمتي صدقيني"، فيما "عمتها" على الجهة الأخرى من المكالمة يرعد صراخها ويزبد بالتهديد والوعيد واضحي المفردات صوتا ونبرة وحضورا. المشهد لم ينته بعد، فالطفلة الكبيرة التي تجر وليدها خلفها وقفت تصور لعمتها الأغراض التي قامت بانتقائها وليس بشرائها بعد، ومن ثم ترسل الصور عبر "الواتس آب" لتتأكد السيدة الفاضلة أن الأمر لم يتعد علبة فطر وزجاجة ماء ورد وكيس سميد ناعم! وبعدها بدقيقتين، وفيما هي محتارة واجمة أمام إحدى ثلاجات تبريد الخضراوات تلقت مكالمة من زوجها الذي انفجر بوجهها غاضبا متوعدا، فيما كانت تحاول المسكينة أن تستعطفه بعبارة "مش هادا بيتي مثل ما هو بيتك"؟ لتتناول بعده والدته الهاتف وتطلب منها العودة فورا إلى البيت.اضافة اعلان
حدث هذا الحوار ضمن مشهد حقيقي في أحد أسواق عمان في عام الفين وخمسة عشر بين سيدتين تحملان هاتفين ذكيين!
لسنوات مضت كنت واحدة من الناس المدافعات عن فكرة اندثار صورة الحماة المتسلطة الجبارة التي تتدخل في أصغر شؤون الكنة، حتى الشخصية منها كما كنا نسمع من حكايات أقرب إلى الأساطير من نساء ذقن مرارة الأيام وتعاسة الذكريات مع عائلات أزواجهن. أو كما كانت الدراما والسينما تقدم هذه الفئة للجمهور مستندة طبعا على قصص واقعية وبعض من الخيال الذي كان جانحا أحيانا، مثلما كنا نشاهد في المسلسل الكوميدي الكويتي الرائع "خالتي قماشة". لسنوات مضت اعتقدت أن التعليم والانفتاح على العوالم الجديدة، ومحاولات التماهي مع النماذج الحضارية في المجتمع التي تحترم استقلالية الإنسان وحريته الشخصية استطاعت أن تمحو مساحة واسعة من أشكال التحكم والسيطرة غير المنطقية على الأحداث ومجريات الأمور وتفاصيل الحياة ما بين الزوجين الشابين. إضافة إلى أنني وجميع من أعرف من الصديقات والقريبات لنا تجارب جميلة ومناوئة تماما للصورة الشريرة أعلاه، مع سيدات تفوقن بذكائهن وخبرتهن وإحساسهن المرهف وسجلات مذكراتهن العصيبة مع أسر أزواجهن، تفوقن على "تابو" الحماة والكنة الأسطوري وأثبتن أنه أسطوري فعلا!
لا شك أن ثمة شعورا يخالج أي أم طبيعية تجاه المرأة الثانية في حياة ابنها بسبب فارق العمر وفارق التوقيت معا. فلا أحد يمكنه أن يعيش زمنه ويستولي على أزمان غيره ممن لا يتقن لغتها الجديدة ولا مفردات تواصلها، وإن كان مطلعا عليها، إنما حين ينطق بها يتأتئ. وهذا لا يصيب جيلا ماضيا بكرامته لا سمح الله ولا بثقافته أو بتضحياته التي توصل أجيالا بعده لبدايات الطريق، لكنها سنة الحياة ولا مناص منها؛ أن تخرج من أبواب البيوت بيوت، وتتفتح براعم الزهر خارج الأصص. إن تخطئ الكنة فلأنها اجتهدت كما اجتهدت أنت أيتها الأم. وليس لأنك عوقبت يوما على اجتهادك تسدين الدين في خزينة بنت الناس. اسمحي للتجارب أن تفشل وتنجح بعيدا عن دورك "الإشرافي". وأعدي نفسك لدور الداعم في كلتا الحالتين. فأنت في البداية أم!