خالد ويداه غارقتان في بيع "الخردة" يرى نفسه عالما بالفيزياء

يافع يعمل في بيع الخردة - (من المصدر)
يافع يعمل في بيع الخردة - (من المصدر)

تغريد السعايدة

عمان- تلك الأنامل الصغيرة التي تلتقط فتات الخردة في الشوارع ومكب النفايات، هي ذاتها من تحاول حل مسألة الفيزياء المعقدة في كتاب الصف التاسع، وهي من تمد يدها مساء لولي الأمر تقدم له العون والمال للمساعدة في البيت الذي بات ينهش الفقر أعتابه ويطرق زجاج الشباك المهشم، كما هي أحلام خالد، التي باتت يخدشها العوز والحاجة إلى العمل.

اضافة اعلان


خالد ذي الخمسة عشر عاما، هو أحد ضحايا الفقر، الذي قتل فيه براءة الطفولة منذ كان في سن الثامنة، لم يلعب الكرة في الشارع، ولم يستأنس ببعض القروش لشراء حلوى الأطفال كأقرانه، وإنما خبأها في جيب والده، لتعتاش الأسرة المكونة من سبعة أفراد (الوالدين وفتاة وأربعة فتيان)، وينضم لصفوف عمالة الأطفال، التي طال البحث والحديث عنها في المحافل الدولية الحقوقية والعمالية، ولكنها لم تكن كافية لإعادة ملايين الأطفال في العالم من أدراج مكب النفايات أو معامل السيارات والمهن الخطيرة الأخرى.


يقول خالد (اسم مستعار) خلال حديثه لـ "الغد"، والذي يقيم في إحدى محافظات الوسط، أنه كان لزاما عليه العمل لمساعدة والده في مصروف البيت، يرافقه شقيقة الأصغر منه بسنوات، حيث يعمل والده في مجال الحفريات، ولكنه بعدما فرضت جائحة كورونا قيودها على العالم، أمسى الأب عاطلا عن العمل، ولا يوجد مصدر دخل آخر للأسرة إلا ما يقتات به خالد وشقيقه من جمع الخردة، التي يبيعونها بمبالغ زهيدة لأحد المحلات، ومن ثم تقديمها للوالد لإعالة الأسرة.


الوالد (المغلوب على أمره) على حد تعبير خالد، لم يرغب يوماً في أن يكون ابناؤه ممن يقبعون في مسمى عمالة الأطفال، ولكن خالد لم يجد حلاً لإعالة الأسرة إلا عمله، ولم يجد ما يعتاش منه إلا الخردة، التي لم يسلم جسده الصغير خلال السنوات الماضية من خدوش وجروح طالت منه، ولكنه لم يتوقف عن العمل بالتزامن مع الدراسة التي يجد فيها ذلك النفق الذي ينتهي بتحقيق حلمه بأن يكون "عالم فيزياء".


غياب الأرقام الرسمية الواضحة حيال أعداد عمالة الأطفال، في ظل وجود نسبة منهم عاملين دون غطاء عمالي أو غير مسجلين في صفوف عمالة الأطفال، قد يكون سببا في عدم إيجاد حل لهذه المعضلة العالمية، كما هو الحال لدى خالد، الذي بات يرى أن عمله هو أمر طبيعي زاد من أهميته تبعات جائحة كورونا التي حرمت الأب من عمله، عدا عن طبيعة التعليم بالتناوب الذي أتاح له فرصة أكبر للبحث في أكوام الخردة المتناثرة.


وعلى الرغم من أن عمل خالد بات معروفا لدى مجتمعه المحيط، إلا أنه رفض أن يتم تصويره أو أن يذكر اسمه الحقيقي، فهو يخشى الوصمة المجتمعية على نفسه وعائلته المستقبلية التي يحلم بتكوينها، فمن يرى نفسه عالم فيزياء في الأيام القادمة قد يجد صعوبة في نفسه أن يوصم بـ "بائع الخردة"، هذا هو المجتمع الذي يحيى به خالد، ولكنه رغم ذلك ما زال يسعى في مناكبها رغم جسده الغض.


وكان تقرير لبيت العمال الأردني للدراسات، قد أظهر ارتفاعاً ملحوظ في عدد الأطفال العاملين في الأردن 100 ألف طفل، فيما كان العدد لم يتجاوز الـ 76 ألفا عام 2016، عازيا تلك الزيادة الكبيرة إلى تبعات جائحة كورونا، التي كانت سببا في تعطيل عدد كبير من أرباب البيوت أو بسبب حدوث حالة وفاة في العائلة، السبب الذي أدى الى دفع الأطفال للعمل لسد حاجة بيوتهم، كما أن الأجور المتدنية التي يتلاقها الطفل تدفع بعض أصحاب العمل الذين تعرضوا لخسائر مادية في الجائحة إلي تعويض تلك الخسارة باستخدام الأطفال كعاملين وبأجور قليلة.


قد يكون الأثر النفسي الذي يقع على الطفل وتبعات ذلك على مستقبله الأسري والاجتماعي والذهني هي الأكثر خطورة، لذلك تعتقد اختصاصية العلاج النفسي والسلوكي للأطفال أسماء طوقان أن لعمالة الأطفال تأثير سلبي خطير من الناحية النفسية، حيث أنها أكبر مسبب لوجود الأمراض والاضطرابات النفسية، فالبيئة المحيطة بالطفل لها دور كبير في تكوين شخصيته، كون عمالة الأطفال تعتبر تجريد لأبسط الحقوق.


أبرز تلك الحقوق وفق طوقان، هي حرمانه من حقه في التعليم واللعب والشعور بالأمان، عدا عن أنهم أكثر فئة معرضه للخطر جسديا أو نفسيا، كما في تعرضهم للتحرشات الجنسية أو الحوادث أو الاختطاف أو الاعتداء الضرب، فهم يعاملون في المجتمع للأسف بأنهم الفئة المنبوذة والضعيفة، والطفل العامل لا بد أن يحتك بفئات عمرية مختلفة وقيم مختلفة فمنهم المنحرف أخلاقيا والاستغلالي، وقد يتشبع الطفل بالصفات السيئة لأنه في المكان الخاطئ، فبدلا من أن يكون على مقاعد الدراسة أو في بيته، فهو يقضي وقته بالشقاء والتعب.


"إضطراب الشخصية المضادة للمجتمع"، هي إحدى الأعراض النفسية التي قد يتعرض لها الطفل العامل، كما توضح طوقان، إذا أن سخطه وحقده على أفراد المجتمع بسبب مقارنته بالآخرين منذ صغره، قد يدفعه ذلك للسرقة والكذب وعدم احترام الاخرين، ويفتعل المشاكل للتعبير عن غضبه، لاعتقادة بأنه قد خذل في هذا المجتمع، فقد يصبح مجردا من ضميره لا يهمه أن يؤذي الآخرين.


كما قد يصاب الطفل الذي يتعرض لضغط العمل في سن الطفولة إلى ما يسمى كذلك بـ"اضطراب الشخصية الحدية"، وذلك لشعورهم بأنهم عبء وغير متقبلين من المجتمع، وعالة على أسرهم، ما قد يدفعهم إلى الانتحار أو إيذاء النفس، لمعاقبة أنفسهم أو للهروب من هذا العالم، على حد تعبير طوقان، بالإضافة إلى شعورهم الدائم بإضطراب القلق بمختلف أنواعه أو الاكتئاب، فالطفل بهذا العمر غير مهيأ للانخراط في عالم الكبار، والذي حتما سيؤثر سلبيا على الطفل لعدم اكتمال نموه في مرحلة الطفولة بعد.


وتضيف، أو أنه يحاول التشبه بالكبار وتقليدهم خاصة في الصفات السيئة، للمحافظة على وقوفه في سوق العمل، وتعتبر هذه الظاهرة خطر يهدد المجتمع، فهي لا تخص مستقبل الطفل وحده بل مستقبل المجتمع كاملا، لأنه سيواجه الكثير من الأشخاص غير الأسوياء نفسيا، والذين قد يشكلون خطرا على من حولهم، ما قد يحولهم من ضحايا إلى أشخاص يسببون القلق والاذى.


بيد أن خالد لا يجد نفسه في هذه الفئة، ويحاول أن يضع نفسه في موقع المدافع عن أقرانه، مبررا أنهم ما كانوا ليضعوا أنفسهم في هذا العالم المعقد في سوق العمل في سن مبكرة، إلا لأسباب كانت الانظمة والقوانين وتآكل الفرص والفقر، هي التي وضعته في موطئ قدم أكبر منه بكثير، يخشاه في كل يوم، ولكن يخفف من وجعه ذلك العون الذي يقدمه لعائلته، التي تحرص كل الحرس على أن يكمل الأبناء دراستهم مهما كانت الضغوط.


خالد برفقة إخوته يجدون مساحة طفولة معقولة في أحدى الجمعيات الخيرية "رواد الخير"، حيث هناك برنامج خاص يدعم الأطفال وذويهم للحد من عمالة الاطفال، والتي يمكن أن تقدم دعما ماليا للاسرة لإقامة مشروع خاص بها في مقابل أن ينسحب الطفل من سوق العمل، إلا أن خالد لم يستطع أن يكون من صفوف المنسحبين من العمل، ولكنه يحصل هناك على تقوية في المناهج الدراسية وتعلم بعض من المهارات الحياتية التي تعينه على مواجهة ظروف العمل.


تربوياً، تؤكد الأخصائية والاستشارية التربوية الدكتورة سعاد غيث، أن عمالة الاطفال تصنف ضمن أشكال الاساءة للطفل وتعريضه للإهمال، لأنه يتعرض لخبرات تؤثر على نموه السوي من جميع النواحي، الجسدية والمعرفية والاجتماعية والانفعالية والأخلاقية، فالطفل ليس مطالب بالعمل والانفاق على عائلته ولا على نفسه، لذلك نحن نؤثر على طريقة نموه ومساره، والخبرات التي يفترض أن يتعرض لها حتى ينمو نمو سليم يخسرها الطفل بسبب مخاطر عالية يتعرض لها.


كما ترى غيث أن الطفل في العمل غالبا يعمل أعمال مهنية مع راشدين، ويكون عرضة للاستغلال، ويتعاملون معه بطريقة لا تناسب وعيه، لذلك قد يطلع ذلك الطفل على أمور بالغين لا تناسب سنه وتفكيره، ويصبح عرضة لخطر تقليد غير واعي للكثير من السلوكيات، في أماكن تفتقر لأدنى شروط الحماية، كما أنه يفتقر للمهارات التي يتعلمها في البيئة التعليمية، إذ من خلال المدرسة بإمكان للطفل اكتساب خبرات أساسية في الحياة بكل جوانبها، ويخسر التعليم الاكاديمي وتعلم المفاهيم والمبادئ وكل العلوم الذي يتناولها الطفل في المدرسة.


هذا الفاقد لا يمكن تعويضه لدى الطفل، تؤكد غيث، وهذا يسبب له ضيق الافق وخسارة في النمو المعرفي العقلي والذكاء، لن ينمو مثل أقرانه، حتى طموح الطفل يصبح سقفه محدود والافق الذي يفكر يقف عند حد معين، فهو غالبا طفل لا يوجد عنده ثراء في بيئته حتى يحلم، وأحيانا كثيرة ما يشعر بالنقص والدونية، وربما يكون مشاعر سلبيه اتجاه التعليم والأطفال الذي من عمره، فتجربة عمالة الطفل وكسبه المبكر والتواجد في سوق العمل قبل آوانه، هي تجربة مؤلمه وقاسية على المدى البعيد.


الأردن هو أحد أوائل الدول التي صادقت على اتفاقية حقوق الطفل، والعمل والتي تنص على ضرورة الحد الأدنى لسن الاستخدام والعمل للأطفال، إذ جاء ذلك منسجما قانون العمل الأردني الذي منع تشغيل الأحداث إذا لم يكمل السادسة عشرة من عمره بأي شكل من الأشكال، وأن لا يعمل في المهن الخطرة أو المرهقة أو المضرة بالصحة قبل بلوغ الثامنة عشرة من عمره، وعلى أن لا تزيد ساعات عمله عن 6 ساعات، وأن لا يتم تشغيله ليلا وفي الأعياد والعطل الرسمية والأسبوعية.


غير أن خالد وأخوه يجدان في هذه الأيام فرصة لزيادة ساعات العمل لديهما، ما يعني أن تلك القانونين لم تكن قادرة على وقف عمالة الأطفال وتسرب الكثير من الحالات في غربال القوانين التي لم تتمكن من اقناع الأطفال أو ذويهم بترك العمل، بسبب عدم قدرتها على إغلاق باب الفقر والحاجة والجوع الذي يرافق تلك الأسر.

إقرأ المزيد: