خبز مغمَّس بالفضيحة

نشر موقع مجلة "ديرشبيغل" الألمانية مؤخراً قصة إخبارية بعنوان: "أجر مضاعف للخيانة: الفلسطينيون الذين يبنون مستوطنات إسرائيل"... وقبل أيام من ذلك، استدعى حديث ذكريات اسمَي فلسطينيَّين كانا يقدمان برنامجين دعائيين -باللهجة الفلاحية- في إذاعة العدو بعد حرب 67.

اضافة اعلان

وقبل ذلك بفترة، وقعتُ على تحقيق كبير الحجم باللغة الإنجليزية عن تاريخ عملاء الاحتلال في فلسطين.. وقد خجلت من ترجمته، وتعاميت عنه، بل وتهربت من قراءته.. كان ثمة صوت يقول: "ليس كل ما يُعرف يقال".. ومن الناحية الأخرى، كان صوت له منطقه يفحُّ بشيء من الشماتة: "لكن إغماض العيون عن الشيء لا يجعله غير موجود، وإنما يجعل المرء، ببساطة، أحمقَ مِنْ نَعامة".. وإذا سكتنا نحن، تطوع الآخرون بنشر غسيلنا القذر باللغات الحية جميعاً، مهما جهدنا في كنس قمامتنا تحت السجادة.. فلماذا إضافة السكوت إلى التعامي؟!

والحديث غير محبّب، والخوض فيه أشبه بمضغ اللحم العطِن، لكنه يبقى أحد متعلقات العنوان الأبرز في المسألة الفلسطينية اليوم: المستعمرات الصهيونية.. وربما لم يكن من باب المصادفة البريئة أن تتناول المجلة الألمانية هذا الموضوع في هذا الوقت، وتعنونه بالطريقة الماكرة التي أطلقت بها الحكم على سلوك شريحة من الفلسطينيين: (خيانة، وإنّما بأجر مضاعف).. وبطبيعة الحال، احتمى كاتب التقرير بالحياد الصحافي، فسرد قصة عامل بلاط فلسطيني ذكره بالاسم: هيثم عصفور.. ويقول هذا العصفور متحدثاً عن عمله في تبليط المستعمرات: "أنا طبعاً أكره عملي. ولكن، ماذا أستطيع أن أفعل؟ إنني مجبر على خيانة فلسطين". ثم يتدخل معد القصة، فيكتب: "ويقوم عصفور ببناء العقبات التي تقف الآن في طريق إحلال السلام في الشرق الأوسط".

وإذن، فهو عصفور، وحوالي 25 ألف فلسطيني ممن يعملون في إنشاء المستعمرات، كما يقول التقرير، هم الذين يبنون "العقبات في طريق السلام".. وهكذا، يكون الفلسطيني المقاوم الذي يرفض التعامل مع المحتلين عدواً للسلام، والفلسطيني المتواطئ مع العدو أيضاً مشارك في إعاقة السلام.. ولا يسرد التقرير القصة من أولها أيضاً، فيذكر السبب في وضع بعض الفلسطينيين أمام هذا الخيار الصعب بين الجوع والخيانة.. ولو كان هؤلاء الذين "يبنون العقبات في وجه السلام" مثل باقي خلق الله أحراراً في وطنهم، لكانوا عملوا في بنائه، وما كانوا ليواجهوا احتمال الانحدار إلى هذا الانتحار بقتل ضمائهم بأيديهم.

يقول تقرير شبيغل: "يلقي عصفور باللوم في قلة وجود عمل بأجر الجيد على غياب حكومة تدير الدولة في فلسطين، لكن أحد أسباب غياب الدولة هو استمرار مستوطنات جديدة في الظهور - بما فيها تلك التي يساعد عصفور على بنائها".. ويقول عصفور: "ماذا أستطيع أن أفعل إذن.. إنني أدعم فلسطين كلما استطعت، لكن فلسطين لا تدعمني". ويقول التقرير إن عصفور يتقاضى عن يوم العمل في القرى الفلسطينية مبلغ 40 يورو، بينما يقبض من المستوطنين مبلغ 80 يورو، ويتقاضى البليط "الإسرائيلي" مبلغ 160 يورو عن العمل نفسه.

بطبيعة الحال، يثير تبرير عصفور السؤال عن الوجهة التي تذهب إليها أموال المانحين التي تتسلمها السلطة.. ويفترض، حسب التقارير التي نقرؤها عن خطط الإنعاش الاقتصادي في الضفة، أن يتوفر للفلسطينيين قدر من الدخل الذي يكفيهم مؤونة السؤال أو العمل للعدو. لكن هناك الكثير من الحديث أيضاً عن الفساد واستئثار البعض بالامتيازات.. ومع ذلك، يبقى مبلغ 40 يورو في اليوم كافياً لأن لا يخون المرء نفسه بأربعين أخرى.

وليس ثمة عذراً لهؤلاء ولا لأولئك.. إن السلطة لا تعني سرقة مواطنيك، كما أن الفقر لا يبرر بيع الشخص نفسه ومواطنيه والأكل بثدييه. ولم يمت الفقراء الفلسطينيون من الجوع مع كل النكبات، وظلوا يجترحون سبل تدبر عيشهم بالخبز القليل، كما يفعلون في غزة المحاصرة.. ومثل كل شيء في التقرير الماكر، تأتي ذريعة عصفور المتهافتة: "لا أريد لابني أن يعيش حياته راكعاً على ركبتيه كما فعلت"..!

لقد وصف "عصفور ديرشبيغل" الفلسطيني هذا عمله مع المحتلين بأنه خيانة بأجر. ولا شك بأنه كذلك، وبأن الخبز القادم منه يبقى مغمساً بالفضيحة.

[email protected]