خريف البشر

لقد غفل البشر في حمى سعيهم في سبيل إطالة المكوث في هذه الحياة أن هذا سيكون على حساب نوعية هذا المكوث ، فقد تضاعف متوسط العمر المتوقع للإنسان خلال القرنين الماضيين نتيجة التطورات الهائلة التي حصلت في الطب والرعاية الصحية والاجتماعية والبيئية ، فانخفض معدل الوفيات المبكرة وزاد متوسط العمر المتوقع حيث يتوقع أن تشكل الشريحة العمرية التي تجاوزت 65 سنةاضافة اعلان
 20 % من نسبة سكان العالم بحلول عام 2050 .
لقد أدى هذا التوغل في العمر إلى زيادة عدد الأشخاص المصابين بالخرف بأشكاله المختلفة حيث يقدر عدد المصابين بهذا المرض حوالي 44 مليون شخص عام 2013 ، ويتوقع أن يتضاعف هذا الرقم مرتين في عام 2050 كما تضاعفت كلفة رعاية هؤلاء المرضى في العقود القليلة الماضية لتستهلك حوالي 1 % من الناتج المحلي الإجمالي العالمي ومن المتوقع أن تنفق الولايات المتحدة وحدها ترليون دولار على رعاية المرضى المصابين بالخرف بحلول عام 2050 .
الخرف ليس مرضا واحدا وإنما تجمع لعدة اضطرابات تشترك في أعراض أهمها ضعف الإدراك وتراجع الذاكرة ، وأهم هذه الأمراض وأكثرها شيوعا هي مرض الزهايمر المسؤول عن أكثر من نصف حالات الخرف .
لم يصل العالم بعد إلى علاج للخرف ولا تبدو في الأفق أدلة واضحة على اقتراب ذلك رغم بعض المحاولات الجادة لكننا ما زلنا بعيدين عن التفاؤل بقرب التوصل إلى حل علاجي ناجع له ، لكن هناك عددا متزايد من الأدلة عن إمكانية التحكم ببعض عوامل الخطورة التي تزيد من احتمالية الإصابة بالمرض من خلال السيطرة على ارتفاع ضغط الدم والسكري والاهتمام بصحة القلب والأوعية الدموية حيث يمكن لهذه الإجراءات أن تلعب دورا في الحد من هذا المرض أو على الأقل تأخير ظهور أعراضه والتقليل من حدتها.
وتتعمق هذه المشكلة في الدول النامية حيث تكاد تنعدم الرعاية الاجتماعية لهذه الشريحة من المرضى مما يُلقى بعبء الرعاية على عاتق أسر المرضى، وهذه بدورها بدأت بالتراجع في ظل تآكل الأسر الممتدة والتباعد الجغرافي بين أفرادها والصعوبات الاقتصادية التي تعاني منها مما جعل هؤلاء المرضى عالقين بين دفتي رحى الحكومات المنسحبة من الرعاية الاجتماعية والأسر التي أصابها التفكك .
كما يساهم عدم اهتمام الساسة وصناع القرار بهذا المرض وضعف الإنفاق الحكومي على الوقاية وعلى الرعاية الصحية والاجتماعية الأولية وضعف التوعية به في عدم القيام بمبادرات جادة للحد من معاناة هؤلاء المرضى وأسرهم  ناهيك عن دور الوصمة المرتبطة به والتي تدفع الناس إلى الإمساك عن الحديث عنه إلا همسا ,علما أن تقدم الشعوب والدول ورقيهم الحضاري يقاس بمدى اهتمامهم ورعايتهم للفئات الأضعف بينهم .
ولا يبدو أن تأثير الخرف قد اقتصر على البشر بل تعداهم الى كافة مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية فأصبحنا نعيش في عالم فقد صلته بماضيه واتصاله بحاضره وثقته بمستقبله وقد صبغ الخريف المقيم كافة فصوله.