خريف البطريرك

العنوان أعلاه اسم على غير مسمى لرواية غرائبية معقدة ومدهشة، تحتاج قراءتها إلى الصبر والمران والوقت، أصدرها أحد أبرز كتاب أميركا اللاتينية، غابرييل غارسيا ماركيز، بعد نشر روايتيه ذائعتي الصيت: مائة عام من العزلة التي نال عليها جائزة نوبل، والحب في زمن الكوليرا.اضافة اعلان
إذ يدهش المتلقي بعد أن يفرغ من قراءة فنتازيا خريف البطريرك، أنه لم ترد كلمة واحدة في النص الباذخ عن بطريرك أو مطران أو أسقف أو غيرهم من أعضاء السنودس، بل إن الجنرال الأحمق المستبد هو البطل المطلق في هذه الرواية التي وصفها ماركيز، ربما على عكس كثير من قرائه المفتونين بنتاجه الأدبي السابق، أنها الرواية الأهم له.
وهذه ليست مراجعة نقدية لخريف البطريرك، ولا هي مطالعة في تقلبات أطوار الجنرال، بل مجرد استعارة لعنوان استراحة قصيرة، أوحت به مواقف صادرة عن بطريرك حقيقي في لبنان اسمه بشارة الراعي، دشن من خلالها انقلاباً سياسياً صادماً على ثوابت كنيسته، وخروجاً فظاً على تقاليد رعويته المتموضعة تاريخياً في المنطقة الوسط بين تخوم الطوائف المسيحية المشرقية.
ولشدة العاصفة السياسية التي أثارها الراعي، وهول تبعاتها على أسماع معظم أتباعه، الذين قادوا حراكاً متنامياً أفضى إلى ما بات يعرف باسم استقلال لبنان الثاني، فقد بدا لنا راعي الكنيسة المارونية كبطريرك في خريف العمر، أخرجه تقدم السن عن سجيته الأولى، وشوش عليه رؤية المشهد الإقليمي على حقيقته، وهو لم يمض سوى خمسة أشهر فقط على وصوله إلى بكركي.
ففي تلك التصريحات الصادمة والمثيرة للجدل، أبدى البطريرك الماروني جزعاً لا مبرر له حيال ثورة التغيير الجارية في العالم العربي، وأعرب عن خشية غير مفهومة إزاء سقوط نظام الأقلية الطائفية في دمشق، وأظهر تعلقاً لا يمكن قبوله بالنظم الشمولية الاستبدادية، كونها تشكل الضمانة لحفظ الأقليات من طغيان الأكثرية السنية، وحمايتها مما يسميه خطر الأصولية الإسلامية.
وهكذا فقد تجلت مواقف راعي الكنيسة المارونية كدعوة صريحة لإقامة حلف الأقليات في المشرق العربي، بذريعة تجنيب عموم المسيحيين مصير إخوة لهم في العراق، حيث تم التنكيل بهم هناك، وتهجير معظمهم على أيدي مليشيات أقلوية أخرى، وليس على أيدي الأكثرية السنية التي لم يسبق لها أن افتأتت على حقوق مسيحيي العراق أو غيرهم طوال عقود طويلة من الزمن.
ومن غير تعسف في قراءة هذا الموقف الإشكالي للراعي، الذي نسخ تراث سلفه البطريرك نصر الله صفير، وبدا فيه كأنه منبتّ عن رعاياه الموارنة، فإنه يمكن القول من دون تحامل إن البطريرك الجديد يحاول تخويف المسيحيين من الثورات العربية، رغم كل ما تبشر به من حداثة وديمقراطية، ويدعوهم إلى الدفاع عن أنظمة حكم بوليسية متوحشة، رغم كل ما تتميز به هذه من تسلط وفساد وعداء شديد للحرية.
بكلام آخر، فإن مثل هذه الدعوة المستهجنة، الناجمة عن مقاربة مغلوطة لحركة التغيير الديمقراطية المتعاظمة في العالم العربي، تنطوي على ما هو أبعد من حالة سوء فهم طارئة، وأعمق من وضعية عدم يقين عابرة، كونها تنجرف بصاحبها، وتجر رعيته، إلى مكان تنعدم فيه القدرة على رؤية اتجاه حركة التاريخ، وفهم متغيرات هذه اللحظة الاستثنائية في حياة شعوب هذه المنطقة.
على أي حال، فقد تأخر الراعي في المجيء إلى معسكر الممانعة بعد أن سقط هذا المعسكر أرضاً على وجهه، وفتح مجابهة لا طائل من ورائها مع الشعب السوري والأكثرية السنية في المشرق العربي، وبدا كمن يرفع شعار "المسيحيين أولاً" ويعلو بمصالحهم فوق كل اعتبار، حتى ولو أدى ذلك إلى سفك دماء المسلمين، وهو ما لا نعتقد أن الأكثرية الكاثرة من رعاياه تصادق عليه.