خطاب الهوية والاستبداد

المعركة التي خاضها المتأسلمون في مصر بصدد "الحفاظ على بند الهويّة الإسلامية" في دستور مصر كانت معركة استعراضيّة لتثبيت أقدامهم في الحكم وامتحان الأثر والتّأثير اللذين يرجون لهما الحدوث في التّربة السياسيّة المصريّة، أكثر من أنّه فهم ما لمعناها ومدلولاتها العميقة! فهي، أي الهُويّة، في حالة المتأسلمين في جميع أقطار المعمورة، أداة صراع من أجل السيطرة والحكم والنّفوذ.اضافة اعلان
وإذ يبدو مصطلح "الهويّة" حياديّاً خالياً من الأيديولوجيا، فإنّه ليس سوى أحد المكوّنات المهمّة في الخطاب الأيديولوجيّ الإسلامويّ اليوم؛ فباسم "الهُويّة الإسلاميّة" الآن، يُقاوَم المختلفُ، ويُجهَض التّغيير، ولا يحقّ لأهل الاجتهاد تقديم رؤىً مباينة لتلك التي يتمادى في تقديسها المتأسلمون فيما يخصّ وضع المرأة وحرية التّعبير والحريّة الفرديّة وحرية العقيدة والفنون والآداب والآخر وغيرها.
فالهويّة لديهم كائن ثابت مقدّس إذا كان يخصّهم، ومُسفّه مُحقّر إذا كان يخصّ سواهم. وعلى ذلك فلا يجوز (بحسب تعاليم هذه الفئة) "العبث" بالهُويّة وتغييرها إلا إلى ما يرونه حقّاً فيها. والحقّ الصّحيح دوماً لا يوجد إلا في رؤيتهم الأحاديّة للواقع والدّين، وتصوّرهم للتحضّر الإنسانيّ!
بينما أنّ الهويّة على مدى التّاريخ البشريّ لم تتمتّع بالثبات يوماً. فهي موضوع متغيّر يخضع لتأثيرات شتى، ويتكوّن بشروط ظرفيّة (زمانيّة ومكانيّة) وتاريخانيّة. وإلا فكيف نفسّر الملابس والبناء والعادات والتقاليد (التي هي جزء من الهويّة) واختلافها بين القديم والحديث في هذا المكان أو ذاك؟ وكيف نفسّر رحيل هندسة البيت الدمشقيّ إلى أميركا اللاتينيّة وخرقة الرجل التي يضعها على وسطه في اليمن من أندونيسيا؟ ومطبخ بُخارى إلى الحجاز؟
صحيح أنّ الحنين يمكن أن يكون سبباً في إعادة إنتاج الهويّة، كحالة العرب في الأندلس، ولكنّه صحيح أيضاً أنّها يمكن أن تكون سبباً أو تعلّة للاستبداد، كحالتنا الراهنة مع الإسلامويين اليوم؛ حيث يتجاوزون الحنين الشّخصيّ إلى أيام الإسلام الأولى، ليكون مبتغاهم "تطبيق الشريعة" عن طريق الحفاظ القسريّ على "الهويّة الإسلاميَّة"" رغماً عن أنف النّاس والقوى التي تُشهر مقترحات أخرى لتسيير المجتمع، وتتحفّظ على القراءات المستبدّة والطّغيانيّة للنصّ المقدّس!
الهُويّة واقع موجود في الأشياء والطّبيعة والإنسان، تتحقّق أحياناً بالخَلْقِ، كالهويّة الجندريّة (الأنثى والذّكر) وكالخصائص التّشريحيّة للجسد، وكالهويّة الصّحراوية أو الجبليّة لبعض الأصقاع. كما تتحقّق أحياناً بالتّماسّ والمخالطة كاكتساب عادات ومحو عادات. وأحياناً بالاختيار كتغيير الدّين أو العقيدة، أو حتى الشّكل والمظهر الخارجي بعمليّات التّجميل، وتغيير الجنس أيضاً (كما يحدث في البرازيل). وفي أحيان جبراً وإكراهاً كما في الاستعمار وقوانينه الجائرة في فرض أنواع من السلوك بعينها، وتشجيع أخرى، مثل فرض نقاب الوجه على النساء في الفترة العثمانية!
وليس طموح الإسلامويين إلى فرض هويّة بعينها على المجتمعات العربيّة ببعيد عن الممارسات المستبدّة للاستعمار، ولا القراءة المنحازة والاستعلائيّة لمجتمع "الشرق" التي قدّمها مستشرقوه، ناهيك عن الخدمة التي يقدمونها إلى القوى العظمى في الخارج لتفكيك الهُويّات القائمة! ولهذا حديث آخر.
لقد استخدم المتأسلمون خطاب الهويّة، وما يزالون، منصّة لإطلاق صواريخ التّخوين والتّكفير لكلّ من لا يهابُ هذا الخطاب أو ينصاع لإرهابه، مع أنّ هذه الكلمة/ المصطلح لم ترد قطّ في النّصّ القرآني أو النّبويّ لا باللفظ ولا بالمعنى. فهي اجتراحٌ لغويّ فكريّ ظهر متأخّراً في الثقافة العربيّة بفعل التَّرجمة، بعد قرون من مجيء الإسلام!
سنحاول أن لا نفقد الأمل...!

 

zuleikhaaburish@