خطوط الصدع الثلاثة في أوروبا

مهاجرون يحاولون اجتياز السياج الحدودي في المجر - (أرشيفية)
مهاجرون يحاولون اجتياز السياج الحدودي في المجر - (أرشيفية)

جان بيسان-فيري*

باريس- قبل نحو عشر سنوات أو عشرين سنة، كان السؤال الوجودي الذي يواجه الاتحاد الأوروبي هو ما إذا كان ما يزال لديه مصلحة في عالم تحكمه العولمة. والسؤال الآن هو ما إذا كان الاتحاد الأوروبي قادراً على الاستجابة بفعالية للصدمات الخارجية الكبرى.اضافة اعلان
يعاني الجوار الأوروبي الآن من الفقر ويتسم بالخطورة. فإلى الجنوب من جبل طارق، ينخفض نصيب الفرد من الدخل عن مثيله في أوروبا خمس مرات. ومؤخراً اندلعت الحرب في أوكرانيا. وما يزال الصراع الإسرائيلي الفلسطيني مستمراً منذ أكثر من خمسين عاماً. ولم تكد الحرب تضع أوزارها في العراق حتى تمكنت الفوضى من سورية.
كان بوسع أوروبا لعقود عديدة بعد الحرب العالمية الثانية أن تتحمل ترف تجاهل ما يحدث خارج حدودها: إذ كان توفير الأمن في العالم هو وظيفة الولايات المتحدة. لكن الحال تبدل الآن. فكان في انسحاب الولايات المتحدة من العراق إشارة إلى حدود قدرتها على المشاركة، والآن، بدأت المشاكل في الجوار المباشر للاتحاد الأوروبي -وليس في سورية وحدها، بل وأيضاً إلى الشرق والجنوب- في طرق أبواب الاتحاد الأوروبي. ولهذا، يبدو أن الأولوية الأولى للاتحاد الأوروبي يجب أن تكون حماية نفسه والمساعدة في استقرار بيئته.
لكن هناك خطوط صدع ثلاثة تجعل من الصعب على الاتحاد الأوروبي أن يحقق هاتين الغايتين. فبريطانيا تتساءل عما إذا كان ينبغي لها أن تنسحب من الاتحاد الأوروبي، ويدب الخلاف بين أوروبا الشرقية وأوروبا الغربية حول أزمة اللاجئين. وتتباين أولويات فرنسا وألمانيا.
تمتد جذور حيرة بريطانيا بشأن عضوية الاتحاد الأوروبي عميقاً في التاريخ: ففي العام 1946، دعا ونستون تشرشل إلى إنشاء الولايات المتحدة الأوروبية -ولكن بدون بريطانيا. غير أن الخوف البريطاني المرضي من أوروبا لا يقوم على أي أساس متين: فليس هناك أي سبب جوهري يفصل المملكة المتحدة عن بقية القارة. ولعل مما ينم عن الكثير أن المراجعة الدقيقة التي أجرتها وزارة الخارجية البريطانية للكيفية التي يعمل بها الاتحاد الأوروبي لم تنتج أجندة لإعادة توزيع الصلاحيات.
كان المطلب الوحيد المهم الذي أعرب عنه رئيس الوزراء ديفيد كاميرون في رسالته الأخيرة إلى الاتحاد الأوروبي يتعلق بالهجرة الداخلية. والآن أصبحت بريطانيا، التي كانت قديماً بطلة حركة الأيدي العاملة، متخوفة من العمال الأجانب وراغبة في تقييد قدرتهم على الوصول إلى الفوائد الاجتماعية. وهذه نقطة خلاف محتملة في العلاقة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، ولكنها ليست سبباً لإنهاء شراكة دامت أربعة عقود من الزمن.
تشير استطلاعات الرأي إلى أن نتيجة استفتاء بريطانيا على الاستمرار في عضوية الاتحاد الأوروبي، والذي وعد كاميرون بعقده بحلول نهاية العام 2017، سوف تكون متقاربة للغاية. لكنه سيكون خطأ فادحا والمأساة إذا صوت البريطانيون لصالح خروج بريطانيا كشكل من أشكال الحماية ضد الاضطرابات في القارة.
ظهر خط الصدع الثاني مع أزمة اللاجئين. فحتى العام 2014 كان "الانفجار الكبير" للاتحاد الأوروبي الذي تمثل في التوسع في العام 2004 يستحق الإشادة بوصفه قصة نجاح، بعد أن أساهم بشكل كبير في التحول الاقتصادي والسياسي السريع والسلمي في أوروبا الوسطى والشرقية. وبدا الأمر وكأن التوحيد الأوروبي الحقيقي بات في طور التكوين.
غير أن أزمة اللاجئين كشفت أن الأعضاء الاتحاد الأوروبي الغربيين والشرقيين لا يشتركون في المفهوم نفسه للأمة. فقد تقاربت أغلب بلدان أوروبا الغربية، على الأقل بحكم الأمر الواقع، وفقاً لتعريفات غير عِرقية وغير دينية. وتضم أغلب هذه البلدان أقليات عِرقية ودينية كبيرة. ولم يكن ذلك تحولاً سهلاً، وهناك فوارق في قدرة البلدان على استيعاب المزيد من المهاجرين؛ ولكن التغيير هو أمر لا رجعة فيه.
غير أن أغلب بلدان أوروبا الوسطى والشرقية تعترض. فقد أطلق رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان العنان لحملة خطابية شرسة مناهضة للمسلمين. وأعلن نظيره السلوفاكي روبرت فيكو في تموز (يوليو) أن بلاده لن تقبل سوى اللاجئين المسيحيين. وفي وقت قريب، ألقى الرئيس التشيكي ميلوس زيمان كلمة أمام مجموعة تسمى "الكتلة ضد الإسلام"، قائلاً لأنصارها إنهم "ليسوا متطرفين". ولم ينتظر وزير الشؤون الأوروبية الجديد في بولندا 24 ساعة بعد هجمات باريس قبل أن يستغلها للتنديد بعيوب أوروبا.
وليس هذا خلافاً بشأن السياسات، بل إنه انقسام حول المبادئ -المبادئ الأساسية التي قامت عليها معاهدات الاتحاد الأوروبي وميثاق الحقوق الأساسية. ففي ألمانيا بشكل خاص، يتمتع أي شخص مضطهد لأسباب سياسية بحق دستوري في اللجوء. وقد تصرفت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، على النقيض من المفاهيم الخاطئة الشائعة، على أساس القيم الأخلاقية وليس المصلحة الذاتية الديموغرافية في السماح بدخول نحو مليون لاجئ هذا العام.
نادراً ما تتوقع ألمانيا التضامن من شركائها الأوروبيين. لكنها كانت تأمل، في أوج أزمة المهاجرين، أن تحظى ببعض التضامن ولو لمرة واحدة. والواقع أن الرفض الشعبي القاطع لنداء ألمانيا الصامت من قِبَل البلدان التي ما تزال تستفيد بشكل كبير من التضامن الأوروبي لن يُنسى بسهولة.
أما خط الصدع الثالث، فيكمن بين فرنسا وألمانيا. فمنذ هجمات الثالث عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) في باريس، أصبح الأمن هو الهدف الفرنسي المهيمن. ومن ناحية أخرى، تركز ألمانيا على تنظيم استقبال وتوطين التدفق الهائل من اللاجئين.
لكن هذا الانقسام ظَرفي وليس أساسياً. فقد ينتشر الإرهاب في ألمانيا، وقد ينتقل اللاجئون عبر الحدود. بيد أن المخاوف العامة والأولويات الحكومية تختلف، في الوقت الراهن على الأقل.
وقد أعربت المستشارة الألمانية ميركل والرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند عن التزامهما بالدعم المتبادل. وسوف ترحب فرنسا ببعض اللاجئين، وسوف ترسل ألمانيا بعض القوات إلى مالي. ولكن اللفتات الرمزية لا تكفي. إذ يظل خطر شعور كل من الدولتين بأنها تُرِكَت وحدها في منعطف حاسم قائماً.
لكنه جرى اقتراح مبادرات أكثر طموحاً. فمؤخراً، دعا وزير الاقتصاد الألماني زيجمار جابرييل ووزير الاقتصاد الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى إنشاء صندوق مشترك لمواجهة التحديات الأمنية وتلك المرتبطة باللاجئين إلى أوروبا، وتمويل سياسات مشتركة. وسوف يخدم الصندوق كآلية راسخة لتقاسم المخاطر، وقد يكون متواضعاً، ولكنه يمثل خطوة ذات مغزى نحو التغلب على الجمود بشأن مبادرات الاتحاد الأوروبي، إن لم يكن نحو تبادلية الدفاع والأمن، كما أوصى بعض الباحثين.
المطلوب بوضوح الآن هو قدر أكبر من الجرأة، أياً كان شكلها. وإلا فإن الفشل في معالجة المخاطر والتحديات المشتركة ربما يدفع المواطنين إلى وضع كامل إيمانهم في الدولة القومية، والتخلص من التضامن، والدعوة إلى الاستعادة الدائمة للحدود الوطنية.
ليس من قبيل المصادفة أن تظهر خطوط الصدع الثلاثة في الاتحاد الأوروبي في لحظة حيث يواجه تحديات غير مسبوقة. وتكشف الضغوط الخارجية نقاط الضعف الداخلية. فإما أن تتغلب أوروبا على نقاط الضعف هذه، أو تستسلم لها. وتشكل أزمة اللاجئين والأزمة الأمنية في الاتحاد الأوروبي الآن لحظة الحقيقة.

*أستاذ في كلية هيرتي للحكم في برلين، ويعمل حالياً مفوضاً عاماً لتخطيط السياسة مع الحكومة الفرنسية. وهو مدير سابق لمؤسسة "بروغيل" الفكرية الاقتصادية في بروكسيل.
*خاص بـ"الغد"، بالتعاون مع "بروجيكت سنديكيت".