خلّي الطابق مستور

تُعاني مجتمعاتنا العربية من فصامٍ اجتماعيّ مزمن، فهي تفضّل التّظاهر بالفضيلة، على حساب الجهر بالحقيقة ومعرفتها؛ فالخطيئة في الخفاء مغفورة، خاصّة إن تَسَرْبَلَ صاحبُها بثوب الفضيلة.اضافة اعلان
ولعل سبب ذلك زيفٌ في التكوين القِيَمي للمجتمع، وفقدان بوصلة مرجعيةٍ قيميّة إنسانية حرة، تُمكن المجتمع من تقبّل الخطيئة لتعمل على تقويمها تماماً، كما تحتفي بالفضيلة لتعمل على إشاعتها. وتميل مجتمعاتنا أيضاً، إلى الاعتقاد بمشروعية إطلاق الأحكام على سلوك الأفراد، بتعميم مُخل وبمرجعيات شخصية وليست قانونية، فكل كاسيةٍ خلوقةٌ مثلاً، وكلّ "مفَرْعِة" غير خلوقة، وواضحٌ الفساد الواقعيّ والمنطقيّ لمثل هذا التعميم.
كما تميل مجتمعاتنا عادة، إلى العيش في حالة إنكار للواقع، "إحنا ما عنّا فساد الغرب.. إحنا ما عنّا اعتداء جنسي على الأطفال.. إحنا ما عنّا علاقات خارج الزواج...". ويَصير التّظاهر بمراعاة ما يسمى "العادات والتقاليد" طريقاً للقبول الاجتماعي الذي يُخفي أحياناً تحته كلّ أشكال الممارسات غير الأخلاقية وغير الإنسانية؛ سنداً لكلّ المعايير، سواء كانت دينيّة أم دنيوية.
كما تميل المجتمعات إلى توسيع دائرة التحريم في مجال السّلوك البشري، لتُصادر أكبر مساحة من الحريّة الشخصية، وتمنح الحقَّ للكافة للتدخل السّافر في حياة الأفراد من دون وجلٍ أو رادعٍ أخلاقيّ أو قانوني، وذلك تحت لواء الدين أو العادات والتقاليد، وهُما منه براء. ذلك أن القرآن الكريم مثلاً، وهو يقرّر وجود "حزب الكَفَرة" بقوله تعالى "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، لا يُمكن أن يُلاحق سلوك الأفراد باسم الورع الاجتماعي الشّكلي، بل إن الإسلام فيه تشديدٌ لحالة إثبات الزّنى، حد الاستحالة، وهو بهذا -برأيي- يُرسل رسالة راقية مفادها أن سلوك الفرد الشخصي هو مجالٌ ممنوعٌ الخوض فيه أو التّعرض له.
وبالمقابل، فإن المجتمعات الغربية الحيّة، تقبل الطبيعة الإنسانية بكلّ تجلّياتها، لا بل تُهيّئ للفرد مجال الحرية الشخصية لِيَجْهَر بذاته وسلوكه، وإن خالف الجماعة أو حتى خرج سِلميّاً عليها. ومن زاوية أخرى، ولغايات تنظيم المجتمع، تعمد المجتمعات الحيّة إلى القانون ينظّم سلوك الأفراد، بحيث يكون القانون الحد الفاصل لمنع الاعتداء على حرية الآخرين. أما دون هذا القانون، فإنه يُترك للناس وللمجتمع تقويم السلوك غير المقبول اجتماعيا عبر الوسائل السلمية فقط من دون جبرٍ أو أكراه، والأهم من ذلك من دون إصدار حُكم  أخلاقيّ اجتماعي يُصادر حق الأفراد المختلفين ويدفعهم للتّخفي، فتضيع على المجتمع فرصة تقويم ذاته وسلوك أفراده أو تطويره بطريقة حضاريّة إنسانيّة حرة.
ولهذا -على عكس ما هو شائع- فإن الفضيلة في المجتمعات الحيّة، هي خيارٌ شخصيّ حقيقيّ ذاتي، والأخلاق هي اختيارٌ حرٌّ من ضمن خيارات متاحة للفرد، فقد تتحجب فتاةٌ  في مجتمعاتنا إكراهاً مباشراً من أهلها، أو مقايضة مع الأهل والمجتمع لتتمكّن من الذهاب للجامعة أو العمل، وأحياناً تتخذ هذا القرار انسجاماً مع الشائع الأعم، أو قناعة بطبيعة الحال. بالمقابل، فإن المحجبة في المجتمع الحر الحي تتخذ -في الغالب الأعم- هذا الخيار عن قناعة دينية أو هوية دينية في إطارٍ حُرّ مطلق، يُرحّب بخيارها هذا.
ما لفت نظري في تناول فيديو "قبلة" شارع الوكالات، التعاطي مع الأمر وكأن تلك القبلة أوّل قبلةٍ تحصل في الأردن، وأنها خروجٌ عن المألوف والمعروف منذ تأسيس الإمارة حتى اليوم. طبعاً، من المهم تذكيرَكُم ونفسي، أنها ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، وأنه رغم احتفاء البعض، واستنكار آخرٍ ورفض ثالث، فإن العُشاق سيستمرون في تبادل القُبَل، وفي كلّ مكانٍ أتيح لهم؛ سواءً في مرعىً ناءٍ أو شارعٍ مهجور أو في حقلٍ ساتر. وإلا، فَبِمَن قال عرار قصائده، ولمَن غنَّى عبدو موسى مواويله، وبمن رسم مهنا الدرة لوحاته، ولمن لحنّ طارق الناصر موسيقاه الساحرة؟
أيّها القوم، إن سلوك الأفراد حقّ لهم ما لم يعتدوا على نصّ قانوني، أو على حرية الآخرين. وليس من الفضيلة التدخل أو الحكم على سلوك الناس. ومن المُفيد أن نخرج  للشمس، فإنها تُعطي الحياة وتَقتل العفن، ومن الإنساني أن يُمارس الناس خياراتهم بحريّة، فإن الحرية هي أساس كلّ فضيلة، وإن أخلاق المذعورين زيفٌ وبُهتان. وأعلموا أنّا كُلّنا نعرف عن بواطن كلنا، وأن الطابق غير مستور "وعُمْرُه ما كان" جنابك.. ومن المفيد أنّه كذلك.