خيار الاستنزاف وحسم صراع النفوذ في العراق

مع وقوف الشرق الأوسط والعالم على قدم واحدة بانتظار تداعيات الخطوة الأميركية القاسية والمفاجئة بقتل قائد جيش القدس قاسم سليماني، الذي يصنف بالرجل الثاني بإيران يكاد يتفق المحللون على أن العملية التصعيدية تندرج ضمن الأحداث الاستراتيجية بالصراع والتي يتوقع لها أن تعيد خلط الأوراق وتفتح على احتمالات تصعيدية قد تصل للسيناريو الأخطر وهو وقوع الحرب المباشرة بين الطرفين. اضافة اعلان
ورغم انشغال المحللين بتوقعات وتقدير المآلات واحتمالات الرد الإيراني على العملية الأميركية ومدى اتساعه ونوعيته، فإن السؤال الذي ربما كان الأهم طرحه بداية، هو المتعلق بأسباب وغايات الرئيس ترامب من الموافقة على هذه الخطوة التصعيدية الكبيرة مع إيران؟ وهو الذي بات معروفا بإتقانه القدرة على الانسحاب والتراجع باللحظات الأخيرة بالأزمات الكبيرة التي تهدد بجر أميركا لتصعيد عسكري مفتوح، كما جرى مع كوريا الشمالية ومع إيران نفسها بقصة اسقاط طائرة التجسس واستهداف منشآت النفط السعودية وغيرها.
استهداف مناصري إيران بالقصف المحدود لبعض قواعد أميركا بالعراق ولاحقا بمهاجمة سفارتها ببغداد قد لا يبدوان سببين كافيين لعقلية مثل عقلية ترامب للأمر بقتل قيادي إيراني بأهمية سليماني ونقل الصراع العسكري والأمني مع إيران إلى مربع الأصالة المباشرة بديلا لصراع الوكالة المعتمد، فقد سبق للمؤسسة العسكرية الأميركية أن وضعت على طاولته خيارات عسكرية مباشرة للرد على ما تعتبره تحرشات إيرانية مباشرة لكنه رفضها انطلاقا من استراتيجيته بعدم فتح الباب للتورط بصراعات عسكرية مباشرة، خاصة في العراق.
الواضح أن ترامب غادر بأمره بقتل القائد الإيراني الكبير مربع قاعدته العسكرية التي اعتمدها منذ تسلمه السلطة وهي "سكّن تسلم" وعدم الانجرار لصراعات عسكرية مباشرة جديدة خاصة مع دولة بحجم إيران لها أذرعها الضاربة في غير ساحة. التفسير يحتمل واحدة من اثنتين، إما أنها جاءت رد فعل متسرع يعكس حجم الأزمة التي تشعر بها المؤسسة العسكرية الأميركية بميادين الصراع مع إيران في سورية والعراق واليمن ولبنان حيث يراكم حلفاء ايران بهذه الساحات الإنجازات والانتصارات على الأرض.
والتفسير الثاني أنها جاءت بسياق تصعيد أميركي مقصود واستعراض للقوة أريد له أن يمهد لفتح باب الوصول لتوافقات مع إيران يعاد من خلالها ترسيم معادلة تقاسم النفوذ في العراق أساسا وربما بعض ساحات الصراع الأخرى.
أعتقد أن خليطا من التفسيرين السابقين هو الذي يقف بخلفية مشهد التصعيد الأخير، لكن هذه الحسابات أغفلت -كما يبدو- فهم العقلية الإيرانية التي تدير بها الصراع مع الولايات المتحدة، والتي تنطلق من إدارة متكاملة للصراع بكل الساحات وتجنب التعامل معها بالقطعة حيث يشكل ذلك بموازين القوة معادلا موضوعيا بالنسبة لإيران مقابل قوة الولايات المتحدة. كذلك فإن إيران لن تكون معنية بصفقة مع أميركا تقتصر على العراق وتقاسم النفوذ فيه، فمصلحتها الرئيسة هي رفع الحصار الاقتصادي الخانق عنها.
كما أن القدرة على حسم صراع النفوذ بالعراق يصب لصالح إيران نظرا لوجود امتداد شعبي وطائفي وسياسي كبير لها، فيما لا تملك أميركا من خيار لحسم صراع النفوذ إلا بالحرب والعودة للغرق بالمستنقع العراقي، وهو خيار مكلف ومستبعد لأبعد حد.
لا يتوقع أن يكون خيار الذهاب لحرب مباشرة مع أميركا مطروحا بالنسبة لإيران للرد على التصعيد الأخير، ليس فقط لأنها ستستنزف طاقات وقدرات إيران بل ولأنها لن تحتاج سوى لتغيير قواعد اللعبة مع أميركا في درة تاجها بالمنطقة الذي يمثله العراق.
كيف ذلك؟ ليس مطلوبا من إيران سوى إطلاق يد الميلشيات والقوى العسكرية المحسوبة عليها بالعراق وتثوير امتداداتها الشعبية والطائفية والسياسية ضد التواجد الأميركي، ليكون ترامب أمام خيارين مرّين لمواجهة حرب الاستنزاف، إما التصعيد استراتيجيا والعودة للتورط الواسع بالمستنقع العراقي، وإما الالتزام مضطرا باستراتيجيته بعدم الانزلاق لخوض حرب جديدة وتحديدا بالعراق ومع إيران والقوى المحسوبة عليها، خاصة وهو على أبواب الانتخابات التي يطمح أن تمدد له لدورة ثانية.