خَطّ أحمر !

تكاد لا تخلو نشرة أخبار عربية من الإشارة إلى “خط أحمر” ما . مع التأكيد بالطبع انه لا يمكن خرقه أو تجاوزه.
كلنا لدينا خطوط حُمر كثيرة. على صُعد سياسية واجتماعية ودينية، وأحياناً يجري تغيير أو “تحديث” هذه الخطوط الحُمر حسب الأحداث الجارية !اضافة اعلان
وقد جرى خلال الستين عاماً الماضية خرق وتجاوز بل ومحو مئات الخطوط الحمراء، ومرّ ذلك بهدوء وسلاسة، .. لكن ذلك لم يمنع من تعويض الجماهير فجرى لاحقاً إنتاج رزمة جديدة وفاقعة من “الخطوط الحمراء”، التي لقيت إعجاباً وترحيباً شعبياً كبيراً !
أغلب الظن أن الشخص الداهية الذي اخترع مصطلح “خط أحمر”، للدلالة على خطورة شأنٍ ما وعدم التنازل عنه أو المساومة عليه، كان له هدف واحد هو تمرير “أشياء أخرى” لا تقلُّ أهمية وخطورة، تحت ذريعة أنه سيظل مدافعاً شرساً عن “الخط الأحمر”!
دون أن ينتبه الناس أن تلك “الأشياء الأخرى” الكثيرة كانت هي أيضاً حمراء فاقعة؛ في وقت ما، قبل أن يفركها الداهية جيداً ثمَّ يُلوِّنها بالأخضر. ويبقي على “الفزّاعة” الحمراء، يُلَوِّحُ بها كلما اشتدت الخطوب  !
شخصياً كلّما سمعتُ شعار “خط أحمر”، فهمتُ على الفور أن ثمة خطوطا “خضراء” يجري القفز عنها الآن، أو المساومة عليها، لأنَّ لا خفراء يحرسونها، ولا أحد يجزع أو يقلقُ عليها، فهي ليست خطَّا “أحمر” على كلِّ حال !
وفيما ينشغل الناس بالمحافظة على حُمرة “الخط الأحمر”، ويحرصون أن لا تخفت درجة احمراره أبداً، ويدورون حوله كالنار المقدَّسة، يكون ثمة ما هو أخطر قد تعرَّض للانتهاك والاعتداء، دون أن يثير ذلك غضب أو حفيظة أحد، واستبيحت شؤون هي في الحقيقة أشدُّ حمرةً وخطورةً، ولكنها لم تُسجَّل في الثقافة الجمعية قبل ذلك كـ “مقدسات”، ولم يجرِ ترويجها كأيقونات لا يمكن التفريط بها !  
حاجة الناس، للخطوط الحمراء في الحياة، حاجة مُلحّة وتشبه حاجتهم لكل الخرافات التي لا يقبلون التنازل عنها، فهم بحاجة لشيء يخافون منه، لرادعٍ ما، للحظة مرعبة تستوقفهم في وقت معين، لينتبهوا كم قطعوا من المشي الى الأمام، أو الى الخلف أحياناً!
وفكرة “الخط الأحمر” فكرة مدهشة، يستحق من اخترعها مكافأة ضخمة، كونها أكثر الحِيَل مهارةً في التاريخ لابقاء الناس في حالة إنكار واسترخاء!
فهم دائماً بخير ما دامت الخطوط الحمر بخير، ويشيحون بنظرهم إن رأوا أحدا يتسلل من تحت هذه الخطوط او من خلفها أو قفز عنها بسرعةٍ واختفى ! المهم أن لا تقع الخطوط على الأرض في حالة انتهاك فادحة وصاخبة، حينها لن يسكتوا. رغم ان خطوطاً أخرى تكون في تلك الساعات قد جرى تجاوزها أو حتى محوها بالكامل .. لكنها ـ للمصادفة السعيدة، خضراء !
الطريف في الأمر أن توزيع الألوان على الخطوط لم يُعِد أحدٌ النظر فيه منذ قرون، أو على الأقل منذ عقود طويلة، فبقي الأحمر أحمر رغم ما مرَّ عليه من عوامل الطبيعة وغير الطبيعة، وبقي الناس سعداء، يقسمون نوبات الحراسة  بينهم للسهر على “سلامته” !  فيما حمل السرَّاقون على ظهورهم كل الخطوط  ذات الألوان الأخرى ومضوا.
والطريف أيضاً أن الناس يعرفون اللعبة، ولكنهم سعيدون بها، لأنهم يحتاجونها للتوازن، وللتبرير، وللاحساس دائماً بأنَّه ما زال لديهم “مقتنيات ثمينة” لم يجر إهانتها أو ابتذالها، فهم بخير ما دامت اللعبة تمشي على نحو مُرضٍ لجميع الأطراف.
ودائماً ثمة من يجلس في الزاوية بقلم أحمر عريض كلما بهت “خط” من الخطوط أعاد ترسيمه ليظل أحمر فاقعاً يسرُّ الناظرين!