"دافنشي كود" عربيا

لوهلة، قد يبدو الجدل الآخذ بالتراجع بشأن فيلم "دافنشي كود"، بعد الرواية المقتبس عنها التي تحمل نفس الاسم، ومحوره السماح بعرض الفيلم أو مشاهدته من عدمهما، قد يبدو هذا الجدل مسيحيا-مسيحيا، كون الفيلم (والرواية) يتعرض بالإساءة إلى السيد المسيح عليه السلام، كما قررت الكنيسة، وتحديدا الفاتيكان. لكن "مسيحية" هذا الجدل إن صحت في أي مكان في العالم، فإنها لا تصح، بل ولا يجب أن تصح في العالم العربي، حيث من المنطقي والضروري تماما أن يكون جدلا عربيا حضاريا، بمعنى إسلامي ومسيحي، كما جدلا ديمقراطيا، أي مرتبطا بتطلعات الإصلاح لدى الشعوب العربية على تنوعها الديني والطائفي والمذهبي.

اضافة اعلان

فعلى المستوى الحضاري العربي، الذي يشكل الدين الإسلامي عموده الفقري، يبدو من الضروري التذكير بالمعروف منذ مراحل التعلم الأولى في كل بلد عربي، وهو أن أحد أركان الإيمان في الدين الإسلامي إنما الإيمان بالأنبياء وعصمتهم، وبالتالي فإن أي مساس بهم، والحديث اليوم عن السيد المسيح عليه السلام، هو مساس بأحد أسس الإسلام كما أسس المسيحية. ولأجل ذلك، ومن منطق إسلامي خالص، كان يجب أن نسمع من مسلمين ولا سيما فقهاء تمعنوا في الرواية موقفا رافضا لها وللفيلم المقتبس عنها.

في ذات السياق الحضاري، وبما ينسجم مع حقيقة أن الحضارة الإسلامية في العالم العربي هي المظلة التي تجمع المسلم والمسيحي العربي، لا سيما وأننا لم نخرج بعد تماما من حالة الغليان التي سيطرت على الشارع العربي عقب نشر الرسوم الكاريكاتورية المسيئة لسيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، فإن الانتماء الحقيقي لهذه الحضارة، كما تمسكنا بانتماء العرب المسيحيين لها، كان يقتضي أخذ الاعتراض المسيحي على الرواية والفيلم بكل وعي وتفهم وقبول، باعتبارهم جزءا لا يتجزأ من النسيج الحضاري الإسلامي للمنطقة، فلا نقبل ما يسيء لدينهم ومعتقدهم، كما لا يرتضون شيئا مماثلا للمسلمين في المقابل.

هل هي دعوة إلى تبني الموقف الرافض لعرض فيلم "دافنشي كود" في دور السينما العربية في مواجهة المؤيدين لذلك من باب حرية الرأي والتعبير، وانطلاقا من قناعة محقة فعلا مفادها أن عملا أدبيا أو سينمائيا لا يمكن أن يمس إيمان المؤمنين بأي شكل كان؟

الرؤية السابقة لمؤيدي عرض الفيلم، وجلهم إن لم يكن جميعهم من المثقفين العرب المسيحيين (في الأردن على الأقل)، تمثل في أسسها قضية تعلي من أهمية جدل عربي، إسلامي ومسيحي، بشأن "دافنشي كود"، وذلك من ناحية اتصالها بالسعي إلى تحقيق ديمقراطية حقيقية في العالم العربي.

فبدهي أن المثقفين المسيحيين العرب في دفاعهم عن عرض فيلم "دافنشي كود" لا يؤيدون مضمونها الخيالي، وهم وإن كانت مناسبة حديثهم هي الرواية والفيلم اللذين يمسان الدين المسيحي، فيطال أتباعه قبل غيره، إلا أن هذا الحديث في الحقيقة هو دفاع عن حرية الرأي التعبير بمضامينها الواسعة، وخشيتهم أن يشكل رفض عرض الفيلم سابقة مسيحية تتضافر مع سوابق إسلامية، استغل من خلالها الدين للتوسع في قمع الحرية، فيجتمع الجميع على الاستثناء وهو التقييد. ولذلك، أليس ممكنا ومحقا النظر إلى موقف المثقفين العرب المسيحيين باعتبار أنهم يخوضون معركة الأمة ككل في سبيل ترسيخ الديمقراطية؟

ربما سيقول المتخصصون ممن اطلعوا على رواية "دافنشي كود" الكثير عن إبداعها الأدبي، وكذلك قد يفعل المتخصصون في السينما عن الفيلم المقتبس عنها، لكن جمالية "دافنشي كود" عربيا قد تكون في التقاط أبعاد الحوار المسيحي-المسيحي الثري الدائر بشأنها ودلالاته العميقة، من حيث هو حوار لا يهدمه تكفير أو تجهيل ابتداء، صاخب بالحجج والرؤى العقلانية المستمدة من الدين وتأويلاته، ومن حيث هو أيضا حوار منتم إلى الحضارة العربية، إذ يحاول أن يقدم نموذجا في الموازنة بين احترام الأديان واحترام الديمقراطية كأسلوب عيش، من دون أي تناقض بين طرفي هذه المعادلة.

بعد كل ذلك، من الممكن القول إن كلا طرفي النقاش على حق رغم وقوفهما على طرفي نقيض نظريا، وأنه في أي اتجاه حسم الجدل يظل كل منهما منتصرا، بل إن الأمة ككل ستكون منتصرة.

[email protected]