دانيا ورائد


أحسب أن الأكثرية الكاثرة، ممن شاهدت مقطع الفيديو الخاص بوقائع تأبين الشهيدة دانيا ارشيد، والشهيد رائد جرادات، قد وجمت نفوسهم الملتاعة لبرهة، وفاضت مآقيهم بدمعة حارة، عندما نهض أبو رائد، وطلب بصوت جهوري متهدج، يد دانيا من أبيها، حسب الأصول المرعية، لابنه رائد، لتزف عروساً له في الجنة.اضافة اعلان
لم تكتمل أسطورية هذا المشهد الخارق لناموس الحياة والموت، إلا عندما وقف أبو دانيا بين الحضور، مستجيباً لهذا الطلب الذي لا سابق له بين الناس، وتقدم نحو أبي رائد، ليلاقيه في منتصف المسافة فاتحا ذراعيه، ويعانقه لعدة دقائق متواصلة، وسط جمع بدا شديد الانفعال والاستحسان، بل والرغبة في النشيج الطويل، قائلا بفخر: وهل هناك مهر أثمن من الدم أيها الناس؟
حدث ذلك كله في بلدة سعير المنتفضة شمالي الخليل، قبل عدة أيام، في أعقاب عملية إعدام بدم بارد لطالبة في مريولها الأخضر، ربما لم يرها رائد من قبل، لكنه نشر صورة ابنة السبعة عشر ربيعا على صفحته في "فيسبوك" متوعداً بالثأر لها من قوات الاحتلال، التي عاجلته في اليوم التالي بالرصاص الحي، ليلتحق برفيقته خالدا على درب شهداء الهبّة الشبابية المتصاعدة باطراد.
ساءلت نفسي قبل أن أشرع بكتابة هذه السطور: ما الذي ستضيفه الكلمات، مهما كانت بليغة، للمشهد المبثوث بالصوت والصورة من عين المكان، والمتداول على نطاق واسع عبر وسائط الاتصال التفاعلي؟ وأجبت: كيف لهذه اللحظة الوارفة بالسناء والمضاء أن تمضي هكذا من دون الاحتفاء بها على نحو شخصي، والإسهام بحصة متواضعة في تكريس هذه الواقعة الفريدة، كومضة لا يخبو بريقها في وجدان شعب يلاطم براحة كفه مخرز الاحتلال؟
هكذا بدت لي خطوبة هذين الشهيدين الأغرين، الفارسين النبيلين، حالة فارقة من حالات التجلد الإنساني أمام الغياب الأبدي، ومظهرا باذخا من مظاهر التجلي الكفاحي العنيد، الذي لا يخص فقط الأبوين المكلومين بفقد الحبيبين، وإنما يخص أيضاً سائر المنخرطين والمنفعلين والمغتبطين بهذا الأداء النضالي المتجدد، الذي تتناقل فيه الأجيال راية المقاومة من يد ليد، على نحو يدعو للاعتزاز، ويحضّ على الثقة بأن لهذا العرس الفلسطيني الطويل نهاية سعيدة مهما طال المطال.
قلنا في مرة سابقة، غداة اندلاع هذه الهبة العارمة، إنه إذا كان الحجر في الانتفاضة الأولى المجيدة، إبداعاً نضالياً لم تعرفه أي من حركات التحرر الوطني في السابق، فها هو السكين يتجلى كإبداع كفاحي جديد، في غمار هبّة استنهضت الهمم، وحرّكت المياه الجليدية الراكدة، وأملت نفسها بنفسها، وأعادت القضية الوطنية الغائبة عن جدول الأعمال، وعن الإعلام، إلى صدارة المداولات والاهتمامات.
ليس القصد هنا التغني بهذه الهبّة الشبابية المتعاظمة، وإطراء الشهادة وتمجيد الشهداء، وإنما التوقف عند هذا المشهد الملحمي الذي فاءت به علينا دماء دانيا ورائد، وخلدته في الذاكرة إلى الأبد، وقفة أبوين رائعين، امتلكا معاً حساً وطنياً رهيفاً، واستبصر كلاهما معنىً عظيماً للشهادة، واجتازا يداً بيد لحظة حزينة، إلى فضاء لحظة إعجاز دهرية، لا تُنسى على مر السنين.
حقاً، إن الشهداء لا يموتون، فهم حاضرون دائما في ضمير شعبهم، وتراث كفاحهم. وهم إذا رحلوا عن الأبصار، يبقون في ذاكرة الشعوب خالدين، رموزاً مضيئة، ونماذج إنسانية ملهمة، وحكايات بطولة، أحوج ما تكون لها الأمم والشعوب، كي تصنع لنفسها تاريخاً تليداً، وتنتزع بدماء أبنائها مستقبلاً واعداً، تفاخر بشهدائها، تسمى الشوارع والميادين بأسمائهم، وتصنع لهم نصباً تذكارياً توقد في ظلاله الشموع.
وليس من شك في أن دانيا ورائد، سوف يظلان كوكبين منيرين على الدرب الذي ما يزال طويلاً، وأن أبويهما الاستثنائيين يستحقان منا تقديم التهنئة، بعد أن أضفيا على الشهادة معنى أعمق دلالة وأرفع قيمة من كل ما عداها، وأبدعا لنا هذه السابقة الكفاحية المذهلة، أو قل هذه الرافعة النضالية الهائلة، ليس فقط لمد الهبّة بكل ما يلزمها من زخم ذاتي وقوة دفع متجددة، وإنما لإثراء الكفاح الوطني بكل ما يستحقه من جدارة وامتياز.