درس العقبة القاسي

من مراقبة حثيثة لمشهد إضراب عمال الميناء الذي توقف أول من أمس، يمكن القول إن خسارة الاقتصاد تتسيد كل التفاصيل؛ وإن تحليل مضامين المطالب والمواقف، يكشف حقيقة جارحة، وهي أن الإدارة مستفزة، والعمال يستخدمون سياسة ليّ الأذرع. هذا فيما يظهر الجانب الشخصي قويا في جهود الوسطاء، من نواب وغيرهم، وتضيع وسط هذا الضعف وسائل الإعلام التي جاءت متلقية وفق نشر تفصيلي لما يحدث في المنفذ البحري الوحيد للبلاد، أو ناقدة ومحللة لما يجب أن تكون عليه الأوضاع، أو باحثة عن شعبية في أحيان أخرى.اضافة اعلان
في اللقاء المحتد بين رئيس مفوضية العقبة ومدير مؤسسة الموانئ من جهة، وبعض النواب من جهة ثانية، قبل يومين، يتبدى للمرء تراجع منسوب الوعي بضرورة إنقاذ الاقتصاد وتخليصه من خسائر يومية تقدر بنصف مليون دينار. وعلى طريقة "الفزعة" إياها، تمت "لملمة" الأمر في نهاية اليوم، إيذانا بتعليق الإضراب!
وفي تحليل جهود التسوية والحالة التي وصل إليها العمال، إضافة إلى مواقف إدارة الميناء ومفوضية العقبة، يتكاثر الحديث عن مصلحة الاقتصاد والانتماء والولاء للوطن. في حين تتحمل الأطراف كلها، في تقديري، مسؤولية استمرار هذا الإضراب والإخفاق في وضع حد له في وقت مبكر. وبدل حفلة الاحتداد والتلاسن الأخيرة، كان حريا بمن أبرم اتفاقا مع العمال أن ينفذ هذا الاتفاق تدريجيا في وقت مبكر، وكان الأجدى بالعمال أيضا تقديم تنازلات مطلوبة في هذا المرفق الحساس، وهم الذين تقول سلطة منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة إنهم يتقاضون اجورا ترتفع عن مثيلاتها في المنطقة، علاوة على أنها تشكل ضعف المتوسط العام للأجور في البلاد.
لا أحد ينكر ضرورة أن يحصل العاملون في الميناء على حقوقهم المالية. لكن المنطق يفرض، في المقابل، أن لا يُشلّ ميناء الحاويات لأكثر من أسبوع، فتتكدس البضائع داخل الميناء، علاوة على شل حركة مئات الشاحنات في ساحة الميناء ومنطقة الراشدية جنوبا. وكل هذا يحدث لأن العاملين يطالبون بصرف راتب الخامس عشر، وزيادة التأمين الصحي بمبلغ 25 دينارا، إضافة إلى اقرار بعثات دراسية لأبناء العاملين، ومطالب أخرى لا تستلزم شل الميناء ومن ورائه الاقتصاد!
الإدارة حاولت اللجوء إلى عمال بنغاليين بغية إنقاذ الميناء الأردني الوحيد؛ وقطاع النقل تكبد خسائر حقيقية ومتدحرجة؛ وأجهزة الدولة شبه معطلة في العقبة وتواصل التفرج على هذا المشهد المفتوح؛ وجهود تسوية ليست خالصة لمصلحة الاقتصاد، بينما المشهد يتحول من أزمة في الإدارة والحقوق، إلى تعقيد أمني؛ من خلال التوقيف والاعتقالات. لكن الجميع في النهاية يتغنون على الإذاعات وفي المواقع الإخبارية بالمصلحة الوطنية، والانتماء لتراب الوطن، وسواها من العبارات التي لا يعنيها مطلقوها إذا ما قورنت الأفعال بالأقوال.
درس العقبة قاس، يكشف الهنات التي نقع فيها جميعا بما يضر اقتصادنا، ويعود علينا بالأزمات، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى تيسير الحركة والمناولة في ميناء الحاويات، لاسيما أن المنافذ سدت أمام حركة السلع والبضائع الأردنية على حدودنا الشرقية والشمالية. وبدل أن يزايد بعض على بعض في الوطنية وحب تراب هذا الوطن، من المفيد أن لا نقع في درس مماثل يعود على اقتصادنا بخسارة تتضاعف مرات ومرات في مرفق حساس، مقارنة بالحجم المالي للحقوق العمالية المطلوبة.