درس الكيمياء

يحيُّركَ السؤالُ مثل إجابةٍ تنتهي بنقاط للاسترسال؛ هل هو الذي رأيته من نافذة الصالة. رجل وامرأة كانا قبل الفجر على سطح بيت مقشورٍ، يتحدثان بين فنجاني شاي، ثم يقتربان كعنصرين متكافئين، وتقتربُ أنتَ أكثر من النافذة، وترى حميميّة اختبرتَها في الأفلام المصرية. لستَ متأكِّداً أنّ ذلك هو الحبُّ، كما أنّكَ لستَ واثقاً أنَّ الحبّ أيضاً هو قصتكَ "القديمة" مع "سهاد"، مُدرِّسة الحساب. انتهت القصة بالشتات الذي فرضته حرب الخليج الثانية على النّاس، والعشّاق، انصرفتْ هي لتربية ابنها البِكْر، أمّا أنتَ فترفّعتَ للصفِّ الخامس الابتدائيِّ بهزيمة أولى في القلب. اشتريتَ ديوانَ "أشهد ان لا امرأة إلا أنتِ"، نقدتَ البائع الدينار الورقيّ، وفي مقعد فردي في الباص إلى "صويلح"، أنهيتَ القراءة، وزادت نقاط الاسترسال نقطتين.اضافة اعلان
في الخامسة عشرة، يداهمكَ السؤال، مثل صحو حَرِجٍ في الليل. كنتَ نحيلاً مثل قصيدة من الشّعر الحرِّ، وكئيباً كما أغنيات عراقيّة عن خيانة النساء. وكيف تكونُ خيانة النساء؟ الأغنيات لا تجيب عن سؤالك. "جَتْني الصبح وعيونها ذبلانة"، يقول المُغنِّي العراقيّ، فلا تعرف من كلمات الأغنية القليلة السبب الذي جعله شامتاً بحبيبته، ليرمي في وجهها السؤال: "شفتي العشق شي سوي ها يا فلانة"، إنّما أنتَ من يعجزُ عن الإجابة. وعلى سريركَ الخشبيِّ، كنتَ تخصص كلّ ليلة لامرأةٍ، بالأمس جاءتكَ "سحر رامي" بعباءة سوداء، والليلة ستدخل إليكَ "ليلى علوي" من باب المطبخ الحديديِّ المطلّ على الشرفة، وغداً ستمرُّ بكَ "سمر سامي" كالحلم بين منامين. لكنّ تفكيرك تلك الليلة كان أسودَ، رأيتَ في وجوههنّ "عيون ذبلانة"، قطعتَ الحبَّ من طرفهنّ، لتوصله بطالبة التدبير المنزلي!
كنتَ تراها بين السابعة والربع، والسابعة والنصف صباحاً، تمشي برفقة طالبة شقراء بعكس اتجاهكَ، تذهبان إلى الباص الذي يصل إلى "الرصيفة"، وأنتَ تواصل مسيركَ التعس في عمق البؤس، خلف مثلث "المشيرفة". أسميتَها "أزَفْ"، هكذا ناديتَها في منامكَ، بعدما احترتَ في صحوكَ، فقد كنتَ تجهلُ اسمَها، ولا تعرفُ عنها سوى الموعد الذي يلصقُ بصركَ الحديديّ بشفَتْيها الرقيقتين، هي برونزية، نصف ممتلئة، تبدو عابسة، وفسّرتَ ذلك بدراستها لـ"التدبير المنزليّ"، واستعجالها أنْ تكون زوجة، وهي تكبركَ بثلاثة مواسم دراسية، لكنّك، أخضعتها لطاعتكَ واستبدلتَ بها "سحر رامي"، و"سمر سامي" و"ليلى علوي"، وكتبتَ لها شعراً متداولاً على أرصفة وسط البلد في كتب زهيدة، ثمّ كتبتَ أول قصة: عاشق تتسخ بدلته السوداء في الوحل، في السابعة والربع صباحاً.
هل هذا هو الحبُّ؟!
يشغلكَ السؤال أكثر من دروس الفيزياء والأحياء والكيمياء. تخرجُ من المدرسة في التاسعة صباحاً، ولكَ حجّتكَ الدائمة بألم الأسنان وخطأ طارئ في التقويم ينبغي إصلاحه فوراً، فيعطيكَ مساعد المدير الملتحي الطيّب ورقة ودعاء بالشفاء، تمشي بمحاذاة سكة الحديد الحجازية باتجاه وسط مدينة الزرقاء، تحلمُ بين صحوين أن تظهر في جانب السكة الآخر فتاة هاربةٌ من درس الأحياء، تعرضُ عليها مساعدة لم تطلبها بأنْ تدلّها على بائعة الحناء الحجازيِّ، شرط أنْ تحلّ لك مسألة فيزيائية. تمشي حتى تصل الزرقاء، لا فتاة هاربة، والطريق طويلة، وعلى جانبيها حجارة وزجاجات خضراء ونقاط استرسال، وفي الإياب تصادفكَ فتاةٌ غجريّة، تعرضُ عليْها خمسة عشر قرشاً، فقط لتمشي بمحاذاة الجانب الآخر من السكة، توافق بجرأة، وتسمع هذيانك، ثمّ تُعيدُ لكَ النقود، مقابل أنْ تجيبَ عن سؤالها: "ما الكيمياء"؟!