درس من الرابع "ج"

لعل من عاشوا مراحل المناهج السابقة يذكرون إحدى القصص في منهاج العربية، يحكي قصة عمر بن الخطاب مع الأثواب اليمانية، عندما احتج أحد الصحابة على وجود ثوب كامل يلبسه الخليفة لأنه طويل القامة، ولا يكفيه ما تم توزيعه على الجميع.

اضافة اعلان

أهم ما في تلك القصة حرص الفاروق على توضيح موقفه للناس، حتى لا يظل في نفس أيٍّ كان شك او ريبة بأن ابن الخطاب حصل على امتياز خاص أو مارس شبهة فساد.

لسنا خياليين حتى نطالب بمثل سلوك عمر لأن الزمن تغير شعوبا ومسؤولين، ولن نطالب حتى من يحاولون الظهور بمظهر الورع من اصحاب المواقع بأكثر من القانون، لكن حتى لو غادرنا التاريخ، فسنسمع عن قصص من الغرب بأن وزيرا في أوروبا استقال لأنه خالف قانون السير، وتم ضبطه يقطع الإشارة الحمراء.

ونسمع عن مسؤولين في اوروبا يغادرون مواقعهم إذا كان هناك شبهة فساد بحق أحد ابنائهم او زوجاتهم، او حتى لو تم الكشف عن علاقة غير سوية. السبب ليس لأنهم ارتكبوا ما لا يرتكبه البشر، بل لحرصهم الحقيقي على مكانة ونزاهة الموقع العام، ولأن تعاقب النماذج التي تلاحقها الشبهات في أي ادارة يجعل الشبهة تخرج من اطار الاشخاص إلى أن تصيب طبقة أصحاب المواقع، وهذا يعني ضرب البنية التحتية للدول.

موقف الرأي العام فيما يتم نشره عن اي مسؤول ليس حكما قضائيا، لكن الإدارات القوية سياسيا تكرس عرفا أقوى من القانون يُلزم المسؤول، الذي تلاحقه شبهة فساد منه او من محيطه، او تقصير في العمل بشكل كبير، بالذهاب الى بيته لأن ثمن بقائه ضرب القيم المؤسسية والإضرار بصورة الدولة.

في عالمنا يمارس اهل القرار "عنادا" وتتم مكافأة من تنتشر حوله الأقاويل، حتى وإن كانت صحيحة بحجة ان القرارات المهمة يجب ان لا تكون محصلة ضغط الناس والرأي العام. ولهذا مع تعاقب الحالات والقصص والأقاويل التي يثبت أنها حقائق بعد خروج اصحابها من مواقعهم، اصبح لدى الناس قناعة أن هناك فساداً، لكن ليس هناك فاسدون. فالفساد نتحدث عنه مثلما نتحدث عن المجرات والكواكب، من دون ان نرى اصحابه، بينما يرى الناس أثر الفساد في مواطن عديدة.

مادام البشر يحكمون، فإن الخطأ موجود، لكن ميزة الديمقراطية والرقابة أنها تلزم الفاسد بدفع ثمن ما يفعل، وتلزمه ان يتحمل عاقبة اي استغلال لسلطته يمارسه كل من هو محسوب عليه من شبكة علاقات او علاقات دم، لكن مقتل من تغيب عنهم هذه الميزة أن من يمارس الخروج على القانون ويحوّل الموقع إلى شبكة منافع يخرج من موقعه، ليس عقابا على ما يفعل، من دون أن تُمس المنافع وعائدات استغلال النفوذ.

كل القصص التي يتناقلها الناس تتحول إلى حسرة في نفوسهم وإلى قناعات بأن التجاوز ليس جريمة يعاقب عليها القانون، إلا عندما يتعلق الأمر بصغار الناس.

كان يقال أن الموقع العام تكليف، وليس تشريفا، لكن ثبت أنه تشريف ونفوذ! والناس تقبل بهذا، لكن أن يتعامل البعض مع الموقع العام باعتباره موسم غنائم، او جمعة مشمشية قد لا تعود، فهذا امر يبعث على القلق!

الوظيفة ليست موسما للثراء و(تزبيط) الأوضاع. مع ذلك وبسبب استشراء المشكلة فإن الناس أصبحت تقبل أن يقوم المسؤول بـ"تزبيط" نفسه، لكن ليس تزبيط شبكة واسعة من علاقاته!

الفرق بيننا وبين الغرب أن موضوع المساءلة يتم التعامل معه بجدية هناك، لكن نحن حوّلنا كل انواع الرقابة ومؤسساتها الى هياكل لا تصل الى جوهر الفساد او اكسسوارات وجزء من "عدة الشغل"!

[email protected]