دفاعا عن الثورة

في تونس هاجمت جماعات سلفيّة حانات وأغلقتها بالقوّة، على خلفيّة أنّها تخالف الإسلام الذي يريدون له أن يُفرَض بالقوّة؛ قوّة السّلاح أو قوّة العنف المجتمعيّ. هذه الحادثة ومثيلاتها –حتى لو كانت لحدّ الآن نادرة– لا يجب أن تمرّ مروراً عابراً في إعلامنا ومنتدياتنا وتفكيرنا السياسيّ وتخطيطنا للمستقبل وفي مؤسّساتنا التّربويّة وأجهزتنا المسؤولة عن الأمن والقضاء. فالمسألة –لمن يفهم وتفهم– تتخطّى حماسة تدفع بالمتديّنين المتعصّبين إلى خيار القوّة بدل اللجوء إلى القانون. ذلك أنّ التحصُّن بمقولة "تطبيق الشّريعة" على هذا النّحو أو غيره ليس من المِنعةِ بحيث لا يُحاسَب المرتكِبُ الذي اعتدى على أملاك الغير، أو بحيث لا يُعتبَرُ هذا الانتهاك الصّارخ للعقد الاجتماعيّ جريمة نكراء!اضافة اعلان
فتعريف الجريمة معلومٌ، ولكن الجريمة النّكراء هي تلك الممعنة في الإجرام والمصمّمة عليه والمبالِغة في تنفيذه. وأُضيف في هذا السّياق: تلك التي تخرج من تحت عباءة الأيديولوجيا متسلّحة بتأييد إلهيّ مزيّف. ولو كان التّأييد الإلهيّ لهذا الإجرام صحيحاً لكان أحرى أن تسيل بالقوّة دنانُ الخمر في شبه الجزيرة العربيّة بعد نزول الآية الخامسة في سورة المائدة مباشرة: "إنما الخمرُ والميسرُ والأنصابُ والأزلامُ رِجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه...". ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث. وانتهى الأمر إلى إلغاء الخمر من حياة المسلمين في العلن، والله أعلم بالسرّ، دون إلغاء الخمر من الوجود في المجتمع المدنيّ والمكيّ وغيرهما بسبب وجود الأديان الأخرى.
ولقد ظلت الحاناتُ والبِيَعُ والأديرةُ على مدى التّاريخ العربيّ الإسلاميّ أماكن تبيع الخمور دون أن يقفز عُتاة السّلفيّة (الموجودون في كل زمانٍ ومكان)، لتدميرها والعدوان على مرتاديها.
ومع أنّ القضيّة ليست انتصاراً للخمر بمقدار ما هي انتصار لمبدأ التمدين الإنسانيّ الذي يُنظّم حياتَه بالقانون المكتوب المتّفقِ عليه مجتمعيّاً والخارج إلى التّطبيق من جهاتٍ مسؤولةٍ عن التّشريع ومخوّلة بإنتاجه، ومع ذلك فإنّ الظنّ بأنّ الثّورة التي أتت لإصلاح ما أفسده نظامٌ سابقٌ، تبيح للأفراد والجماعات بأن تحتقر القانون هذا الاحتقار، وتعتدي عليه هذا العدوان، إنما هو مرضٌ اسمه الهمجيّة التي سبقت كلّ اجتماعٍ بشريّ. فمجتمع القانون ودولته هما اللذان يسعيان إلى تطوير القوانين (وتطبيقها بحزم وعدل ومساواة) بحيث تلبّي حاجات الناس الاجتماعيّة والسياسيّة والأخلاقيّة والروحيّة، بغضّ النّظر عن اللّون والجنس والعرق والدّين والملّة وأي اختلافٍ ثقافيّ وبدنيّ آخر. أما مجتمعات "التَّغيير باليد" دون تفويض مجتمعي لا خلاف عليه، فهي ما تزال في مرحلة "ما قبل الاجتماع الإنسانيّ" و"ما قبل العمران البشريّ" التي تحدّث عنها ابن خلدون. أي مرحلة الرّعي والتنقّل بحثاً عن الكلأ والسلاح الفرديّ.
ولو كنت مكان الحكومة التونسيّة لأخذت على يد هذه الجماعة التي تشوّه معنى الإسلام بسلوك إجراميّ لا عذر له، ليس بالحبس والغرامة فحسب، بل بإعادة تأهيلٍ لفهم معاني الحريّة والديمقراطيّة والإسلام الوسطيّ المعتدل والحضاريّ. ولأنشأتُ حواراً واسعاً لمقاربة هذه المعاني وتقويتها في النسيج الاجتماعيّ؛ ذلك أنّ نشرَ قِيَم التمدين الإنسانيّ والتّربية عليها ضرورة ماسّة في مجتمعات قفزت في الرّبيع العربيّ، بجهلها المزمن وانقهارها الطويل، من القفّة إلى أذنيها.
دعونا لا نفقد الأمل...

[email protected]