دم الأردني ليس رخيصا

بقدر الإهانة والشعور بالأسى والقهر الذي سببته حادثة السفارة الإسرائيلية في عمان، وبقدر اللوم الكبير الذي وقع في تلك الأيام العصيبة حيال التعامل مع القصة رسميا، يحق لنا اليوم أن يكون الشعور مغايرا وأن نرتاح، فدم الأردني ليس رخيصا.اضافة اعلان
 ثلاثة أشهر مضت على حادثة قتل مواطنين في السفارة. يومها غادر القاتل وفريق سفارته بمشهد كان مستفزا لمشاعر الناس، خصوصا لما لقوه من تعامل بشع وخسيس من رئيس حكومتهم القاتل الذي احتفى بالقتلة أيضا.
 أكثر من 90 يوما ولم يعد كادر السفارة بإصرار أردني ورفض لمطالب إسرائيلية متكررة بهذا الخصوص، إلا بشروط، أهمها اعتذار إسرائيلي عن تلك الجرائم، ولحين تحويل القاتل للقضاء وتحقيق العدالة. ويتسع الموقف الرافض باشتراط عدم عودة سفيرة إسرائيل السابقة إلى عمان.
 في الأثناء، اتخذ الأردن كل الخطوات المطلوبة للمضي بقرار رفض عودة السفارة، ومنها قصة جوازات سفر الأردنيين لدى السفارة وعددها المئات، إذ تم إقرار إصدار جوازات مجانية لكل من يثبت أن أوراقه لدى السفارة.
 الملك، وخلال لقائه النواب الأسبوع الماضي، قال بالحرف إن على إسرائيل أن تحقق العدالة في قضية مقتل مواطنين في مبنى السفارة، وحادثة استشهاد القاضي الأردني رائد زعيتر الذي قضى على يد عسكري متغطرس.
ماذا نقرأ من هذه المواقف؟
هي مجموعة من الرسائل، أهمها أنه في الوقت الذي يسعى البعض للتقرب من إسرائيل للحصول على صكوك غفران، تجد الأردن مواجها غير مهادن، ليس في قضايا قتل مواطنين أردنيين فحسب، بل في أكثر من ملف سياسي أهمها القدس والعمل الدبلوماسي في سبيلها للحفاظ على عروبة المدينة المقدسة وحمايتها من الأطماع الإسرائيلية في تهويدها بممارسات مستفزة يومية، وهي بالنسبة للأردن معركة يومية، أيضا، يخوضها على جميع المستويات السياسية والدبلوماسية، وفي معظم عواصم العالم.
آخر القرارات التي كشفت حجم الضغط الذي يشكله الدور الأردني، تمثل بقرار أميركا وإسرائيل الانسحاب من اليونسكو بادعاء الاحتجاج على "انحياز المنظمة ضد إسرائيل"، حيث ساهم الدور الكبير والجهد المبذول من قبل المعنيين بتعرية إسرائيل أمام المنظمة الدولية.
ثم أن الأردن يكاد يكون البلد العربي الوحيد الذي ما يزال يتحدث عن حل عادل وشامل للموضوع الفلسطيني الإسرائيلي، ويصر على أن نواة التطرف في منطقتنا تتأتى من عدم الالتفات إلى هذه القضية التاريخية وعدم حلها. كما أن الأردن لا يوفر جهدا لشرح القضية وأبعادها للاعبين الكبار، وتحديدا الجانب الأميركي المنخرط تاريخيا في محاولات إيجاد التسوية، وهي الجهود التي أثمرت فعلا بتأجيل تنفيذ خطوة نقل السفارة الأميركية، ووضع الرؤية الأردنية الفلسطينية بخصوص الحل العادل القائم على إقامة دولتين على حدود 67.
 وفي الوقت الذي يصر الأردن على هذا الجهد والعمل المكلف، يغامر آخرون بحروب عبثية لا نتيجة لها إلا تضييع أموال الشعوب ودفن أحلامهم بمستقبل آمن وحياة أفضل.
 لم يكن القرار الأردني سهلا في ملف قاتل السفارة، لكنه تأكيد على احترام الأردن لنفسه ولمواطنيه، كما احترامه للقوانين والأعراف الدولية، لأن التنازل عن الحق والتساهل مع تجاوزات قاتل السفارة لن يضر بالأردن فقط، بل سيضرب منظمة التشريعات والأخلاقيات التي تنظم العمل الدبلوماسي بأجمعه، وتحديدا اتفاقية فيينا، إذ بأي شرع وأي منطق يهرب قاتل من جريمة لمجرد أنه يحمل صفة دبلوماسية!
قصة السفارة ليست مسألة محلية أردنية، فهي قضية دولية كما يصفها مسؤول أردني رفيع، ومعالجتها بعدالة وفقا للقانون يحفظ المنظومة القانونية والاتفاقيات الدولية، وهذا هو الفهم الذي قدمه الأردن ليبني عليه موقفه الذي لن يتنازل عنه. وإسرائيل لا تستطيع أن تمضي بسياساتها المتجاوزة لكل الأعراف والاتفاقيات الدولية دون أن يقف أحد في وجهها.
ثلاثة أشهر والسفارة معطلة، والموقف ثابت لا تراجع عنه، وهذا كاف لنقول إن دم الأردني غير رخيص. هي رسالة مهمة للداخل والخارج، وثمة رسالة لإسرائيل وحلفائها، بأن الأردن لن يمرر مثل هذه الاعتداءات ولن يصمت عليها.