دم الزغلول.. ورأس العصفور

د.لارا مامكغ جلست بحياء على طرف الكنبة، فيما ظلت قدماي الصغيرتان معلقتين في الهواء … لم أكن مرتاحة على الإطلاق، خاصة مع العبارات المملة التي اعتدت على سماعها في كل زيارة نسائية تصحبني فيها والدتي؛ « أكيد شاطرة في المدرسة، وبتساعدني ماما في شغل البيت .. « ثمَ لتتبعها جملة كنت قد سئمت منها تماما: « شكلك أمورة، وبتسمعي الكلمة ! «جمل خبرية وثوقية لا تحتمل النفي، وعليه، لم يكن أمامي خيار سوى هز رأسي ببلاهة لأنال رضى أمي لا أكثر ! وفيما كنت سارحة أتأمل اللوحة المعلقة على الجدار لبيت على بحيرة تسبح فيها بطات … أقبلت السيدة على الضيفات بطبق كبير من الفاكهة، ولم أعلم لماذا أحبت أن تخصني ببرتقالة شاءت أن تقشرها لي بيديها، وتضعها أمامي وهي تقول: « شوفي ما أحلى حظك … برتقالتك دم الزغلول ! « نظرت إلى الطبق برعب لأرى آثار دم فعلا … ركضت فورا باتجاه أمي لأهمس بصوت مرتجف: « شو يعني زغلول ؟ « ولما عرفت، ملأت المكان بالصراخ والبكاء والعويل! وانتابني رعب مماثل لما سمعت لحام حارتنا يسأل إحدى الزبونات إن كانت تريد اللحمة شقفا أو « رأس عصفور « … فبقيت مدة لا أتناول فيها الغداء إن كانت الوجبة محتوية على رؤوس العصافير المسكينة! أما نوع الطعام الذي لا أطيقه حتى يومنا هذا، فهو ما كانت تسميه جارتنا العصبية ذات الصوت العالي دائما؛ « آذان الشايب « … فكنت أراقب أذني زوجها الكهل باستمرار لأشكر الله على أنه ينبت له أذنين جديدتين كل مرة ! وفيما يتعلق بالحلوى، فكنت من المغرمات بما يطلق عليه « راس العبد « و « فستق العبيد « دون أن أفهم الأبعاد العنصرية القبيحة في التسمية … ومثلها « شعر البنات « الاسم المنفر لحلوى ملونة شهية جميلة، التي يسميها بعضهم « غزْل البنات « فيبدو وقعه ألطف . الغريب هو أن أطفالنا ما زالوا يستخدمون التسميات ذاتها، والأغرب من ذلك ما تسمعه في محلات الحلويات … فهناك ستجد « زنود الست « و» أصابع زينب « و» خد العروس « والله أعلم ماذا أيضا لو شاء باحث عمل دراسة لغوية اجتماعية في هذا الصدد، ليخرج بنتائج طريفة، لعل أبرزها قدرة المفردات على كشف ثقافات الشعوب على تنوعها واختلافها، خاصة ثقافتنا التي تحتفي، للغاية، بالمرأة وتفاصيلها ! في السياق ذاته، قد نفهم لماذا يشيع عند الانجليز تعبير: « إنها تمطر قططا وكلابا « كإشارة إلى ضيقهم من غزارة الأمطار … تعبير لا يمكن أن نستخدمه لقسوته من جهة، ولأن الشتاء في ثقافتنا مرتبطٌ بالخيرِ والارتواء والخصب من جهةٍ أخرى . وقد لا يتسع المجال للتطرق إلى الأسماء الشعبية للنباتات الداخلية والخارجية، فمن يمكنه تخيل أن ربات البيوت أطلقن على إحداها ذات زمن « قلب عبد الوهاب» حين كان الفنان الراحل فتى أحلام العديدات … وأخرى كان اسمها « أم كلثوم « … وأخرى « البنت المستحية « و»حلق الست « ونبتة اسمها « المحكمة « لأن أزهارها كانت تغلق على نفسها في المساء ! كنا في « وادي النمل « خلال فصل الربيع الفائت، وضمن ما سبق، لا أعلم لماذا لا نغير اسم المنطقة بآخر يليق بجمالها واخضرارها، المهم، مر طفل وهو يصيح : « إبليس … إبليس ! « لندرك أنه يلاحق جسماً نباتياً ناعماً يهيم في المكان لينقل بذرة داخل تكوين دائري دقيق مكون مما يشبه الريش الناعم، إعجاز رائع هدفه تكاثر النبتة … لم نجد له إلا تلك التسمية العجيبة التي كنا نستخدمها في طفولتنا، وما زالت الأجيال تتناقلها للأسف . ليبقى السؤال، هل لدى الشعوب، إجمالا، قدرة على استحداث قواميس جديدة لبعض مفرداتها المتوارثة غير اللائقة … لعل وعسى! المقال السابق للكاتبة للمزيد من مقالات الكاتبة انقر هنااضافة اعلان