دواعش بيننا بأشكال مختلفة

فكر "داعش" التكفيري، ليس فقط ما يمثله أولئك القابعون في الموصل العراقية، والرقة السورية، أو سرت الليبية، فأولئك يحملون فكرا متطرفا بتنا نعرفه، وهو موصوف لدينا بأنه فكر تكفيري، إرهابي، إقصائي، يرفض الآخر، ويشوه صورة الإسلام كدين والمسلمين كأمة.اضافة اعلان
المؤسف أن الفكر الداعشي بات كالسرطان ينخر في عقول آخرين، يعتقدون أنفسهم بمعزل عنه، ولكنهم في حقيقتهم تأثروا به، فبات حالهم كحال أولئك القابعين في الجحور في الموصل والرقة وسرت، ولكن بثياب حديثة، ومنطق مختلف، ولكنهم في كلتا الحالتين يسيرون في مسار ذات الفكر الداعشي، ويساهمون في تغذيته، وينشرون نفس أفكاره المتطرفة ولكن بطرق مختلفة.
فليست الشجاعة أن تخرج إلى الشارع عاريا، كما أن الشجاعة ليست أن تحمل فكرا يوازي الفكر الداعشي، ولكن برؤية مختلفة، فيما جوهره يكون رفض الآخر، والتشكيك به، ومهاجمة الجميع باعتبارهم دواعش، وانطلاقا من أن صاحب ذلك الفكر مستنير، وتقدمي وعصري، ولكنه في مكنونه العقلي ينهل من الفكر عينه، الذي يرفض الآخر، ويقسم الناس شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، ويهاجم هذا ويترك ذاك، ويكفر من لا يتفق معه في الرؤية، ويوزع على هذا أوسمة ويسحب من ذاك، وهو الشيء ذاته الذي يعتمده الكثير هذه الأيام لمهاجمة كل من يختلف معهم.
لا يستقيم التحدث عن دولة مدنية حضارية متطورة، تحترم الرأي والرأي الآخر، وتستوعب الجميع، ومن ثم وضع الجميع في سلة واحدة، ومهاجمة إرثهم الحضاري والإنساني، ورفضهم، ومهاجمة كل من يختلف فكريا، فهذا فعل يوازي الخروج للشارع عاريا.
وفي السياق أيضا، فإن البطولة ليست أن تخرج على الناس لتنال من معتقداتهم، وتشتم كيفما تشاء، فإن ذلك يوازي ما يفعله الدواعش إنسانيا، وحضاريا، ويؤسس لفكر داعشي بشكل آخر، فكر إقصائي ينخر في المجتمع أكثر مما يفعل الدواعش أنفسهم، فأولئك انكشف أمرهم ولفظهم المجتمع وبات الجميع يعرف من هم ودورهم في تشويه المعتقدات، فيما البعض بات يتكئ على مهاجمة "داعش" والتعميم على الجميع، ورفض كل من يختلف معهم في الرؤية، أو لديه زاوية أفق مخالفة لرؤيتهم الفكرية والاقصائية.
حقا لم يعد الدواعش فقط أولئك المتواجدين في الرقة والموصل وسرت، وفي جحور أخرى مختبئين فيها، فالصهاينة الذين يقتلون الأطفال ويعذبون الأسرى، ويقتلعون الشجر ويحرثون الأرض وقبل كل ذلك سلبوها، هم دواعش أيضا، ولكن بشكل مختلف عما رأيناه في الرقة والموصل.
كما أن المغالاة في نقد قناعات الناس، والتعرض لأديانهم ومعتقداتهم، هو فعل داعشي يصب في خانة خلق فرقة بين الشعب الواحد، ويصب الزيت على نار خلق فتن طائفية ومذهبية نحن في غنى عنها، ويتوجب الابتعاد عنها قدر الإمكان وليس تغذيتها ووضع الوقود على حطب إشعالها.
ان الاختباء وراء المطالبة بدولة مدنية حضارية مستنيرة ومتطورة لا يستقيم طالما احتفظنا في مخيلتنا بأفكار اقصائية قطرية ترفض الآخر.
الدولة المدنية التي نريدها ونسعى إليها هي بوضوح دولة المؤسسات والقانون دولة العدالة والمواطنة وتكافؤ الفرص واحترام الرأي والرأي الآخر، والديمقراطية والإصلاح، ومحاربة الفساد والإفساد، دولة حرية الصحافة وحرية العمل الحزبي، وحرية الرأي والفكر، ولكنها بكل تأكيد لن تكون أبدا دولة رفض الآخر، والتطاول على الناس والنيل من معتقداتهم، ورفض نصف المجتمع ومطالبته بالرحيل.
الخطر أن الفكر الداعشي تجذر عند البعض، فبتنا نرفض الاختلاف، ونكفر وجهة النظر، ونتعامل مع ما يجري على قاعدة، إما أن تكون معي أو أنت ضدي، فلم يعد هناك مساحة للحوار، وإنما بتنا نذهب لشتم كل من يختلف معنا، ونبحث عما يضايقه ونفعله، ونعتقد أن ذلك حرية شخصية، وهي بالأصل فكر إقصائي تجذر.