دولة مدنية تحمي الجميع

 التوقيت الملكي لنشر الورقة النقاشية السادسة مهم جداً، إذ يأتي مع احتدام الجدل حول فكرة الدولة المدنية، بين مؤيّد ومعارض لها؛ من يؤمن بأهميتها للمضي بأمان بعيداً عن أمراض عنصرية وطائفية بدأت تفتك بالمجتمع، وبين قائمين على تشويه مقصود وشيطنة مدروسة لها يلعبان على الغرائز والعواطف.اضافة اعلان
وإذ أعاد الملك التأكيد على هوية الدولة الأردنية بأنها مدنية، فإن تفاصيل هذه الورقة النقاشية والرسائل التي تحتويها، تؤشر أيضاً إلى إدراك جلالته التام لنقاط الضعف التي تعتري الفكرة، والتحديات التي تعيق تطوير القائم فعلاً، والبناء عليه مستقبلاً.
التعريف واضح للفكرة والمبدأ، وفيه قدر كبير من التطمينات التي تدعو الجميع للسعي نحو تبني "الدولة المدنية". فالرسائل للمجتمع ككل، وضمنه المجتمع المدني والأحزاب والمتدينون وغيرهم، كما الأقليات وأهمية دعمها وصون حقوقها.
الرد المهم والجلي في الورقة جاء بشأن التفريق بين "المدنية" التي نتطلع إليها، وبين "العلمانية". إذ كتب الملك بالحرف أن الدولة المدنية ليست مرادفاً للدولة العلمانية، "فالدين في الدولة المدنية عامل أساسي في بناء منظومة الأخلاق والقيم المجتمعية، وهو جزء لا يتجزأ من دستورنا. ولا يمكن أن نسمح لأحد أن يستغل أو يوظف الدين لتحقيق مصالح وأهداف سياسية أو خدمة مصالح فئوية".
ويضيف الملك: "إن الدولة المدنية هي دولة تحتكم إلى الدستور والقوانين التي تطبقها على الجميع دون محاباة؛ وهي دولة المؤسسات... تحمي أفراد المجتمع بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو الفكرية... وتحمي الحقوق وتضمن الحريات حيث يتساوى الجميع بالحقوق والواجبات... هي دولة تحفظ حقوق المرأة كما تحفظ حقوق الأقليات".
ومن ثم، تكون الركيزة الأساسية الكفيلة بتكريس المدنية، والمرادفة لها فعلاً كما يؤكد جلالته، هي دولة القانون التي تستند إلى حكم الدستور وترتكز على المواطنة الفاعلة، وتقبل بالتعددية والرأي الآخر، وتُحدد فيها الحقوق والواجبات".
لكن دولة القانون لا تستوي دون سيادة القانون وتطبيقه على الجميع بعدالة من دون استثناءات. وهنا يؤكد جلالته أن "دولة القانون" مقبولة نظريا من الجميع، بيد أن بعض الأفراد يظنون "أنهم الاستثناء الوحيد الذي يُعفى من تطبيق هذا المبدأ" ما يشوه الفكرة ويخلخلها.
إن التنوع، كما جاء في الورقة الملكية، يمكن "أن يكون مصدرا للازدهار الثقافي والاجتماعي والتعدد السياسي، ورافدا للاقتصاد، أو أن يكون شعلة للفتنة والعنصرية والنزاعات". و"ما يفصل بين هذين الواقعين هو وجود أو غياب سيادة القانون".
هكذا، تغدو الفكرة واضحة، لا يمكن الاختلاف على معالمها، وعمادها المؤسسات التي عليها واجب تكريس سيادة القانون لا تكسيره. بل وعلى هذه المؤسسات أن تعزز حرصها على كفالة سيادة القانون، لتحمي الأردن، وتنتقل به كذلك لمرحلة جديدة من الديمقراطية والمدنية.
وسيادة القانون وتطبيقه بعدالة لا ينفصلان عن العدالة في توزيع الفرص، والعدالة في التنافس. وذلك ما لا يتحقق باستمرار نخر الواسطة مؤسساتنا وعقول بعض مسؤولينا، وأخطر من ذلك إيمان الأردني أن الحقوق –كما الفرص- لا تحصل من دون واسطة! وهذا المرض البيروقراطي، وما له من انعكاسات خطيرة، لاسيما توليد شعور لدى شرائح مجتمعية بأنها مستضعفة ومظلومة لأنها لا تملك الواسطة، سيبقى ضعفا يعتري فكرة سيادة القانون ويضعف أسس الدولة المدنية، بحسب ما يرى الملك.
الورقة الملكية بمثابة رسائل بأكثر من اتجاه؛ بمن في ذلك نحو من يطالب بدولة إسلامية، مرتكزا إلى النص الدستوري بأن دين الدولة الإسلام (رغم ما في ذلك من اجتزاء واختزال)، كما من يسعى لدولة بلا دين. ولذلك بسط الملك معادلته التي تطمئن الجميع بأن الأردن دولة مدنية تحمي الحريات الدينية، في إطار التعايش والسلمية اللتين تطردان أمراض الطائفية والمذهبية، كما العنصرية.
بعد القول الملكي، فإن على الجميع؛ مجتمعا ومؤسسات رسمية وأهلية، الانطلاق في طريق السلامة، وهي طريق الدولة المدنية القائمة على سيادة القانون على الجميع وللجميع.