ديك المزبلة

في كتاب «السباحة في بحيرة الشيطان»، وتحت عنوان الجنون، تدخل غادة السمان في مراجعة دورية لمشرفها الأكاديمي أثناء دراستها في لندن لتصدم من صورة غلاف الكتاب الذي اعتلى مكتب البروفيسور الرصين المتقدم بالعمر، وبلا مقدمات قررت الكاتبة تصنيف مشرفها في خانة دونية قبل أن يفضح البروفيسور جهلها لحظة سؤاله عن اطلاعها على الكتاب ذاته وإجابتها بالنفي؛ هذا النفي الذي يؤكد أنك قمت بنقد كتاب لم تقرأه كفيل بحرمانك لمقعدك الجامعي، إنه كتاب «عصفور الجنة ومبادئ التجربة» وهو من أهم ما قدمه «لينغ» في علم النفس، وللمصادفة هو الكتاب الذي يحدثنا عن الشيزوفرانيا؛ تلك الحالة التي تصف بعض مجتمعنا الأكاديمي البائس متعدد الوجوه الذي يفني الزمن ببناء أجيال من لصوص المعرفة الذين بدورهم حولوا طلبتهم لماكينات من النسخ واللصق ضمن منتج الثقافة العرجاء التي باتت تحكم غلافنا المعرفي.اضافة اعلان
يسمي أفلاطون وهم المعرفة بالجهل المزدوج، وهو حالة جهل مرضية تمكنت من التكيف مع ظروف مقاومتها فعادت للظهور بشكل أقوى كما الوباء، ويسهب في إعادة تشريح هذه الحالة من وهم المعرفة «توما دوكونانك» في كتابه «الجهل الجديد ومشكلة الثقافة»، ويمكن لأي متابع أن يشخصها في مجتمعنا، ومن أبرز مؤشراتها ادعاء العصبية وتقديم العنف على العقل، وهو أمر جعل مجتمعاتنا المعرفية تفرط بأهم ما أنجزته الإنسانية بحسب نيتشة: «عدم الخشية من الحيوانات المفترسة، والهمجيين، وأحلامنا».
يقدم «هابرماس» في كتابه المعرفة والمصلحة رؤيته حول أزمة نقد المعرفة؛ حيث تتراجع نظرية المعرفة حسب وصفه أمام نظرية العلم ويسترسل في تشريح صراع التأمل أمام المدارس الوضعية في سرد متواصل للمدارس البحثية الفلسفية التاريخية وصراعها الأكاديمي العظيم للوصول لما نحن عليه من تقدم إنساني، ولكن ظهرت إشكاليتنا بتمدد ما يعرف بالمعرفة المشاعية التي تقدمها شبكة الانترنت بلا أي رقيب علمي، وهنا نتحدث عن المحتوى الأكاديمي ذي القيمة المعرفية والعلمية، فنحن اليوم نغرق في أكوام من نفايات العلم الذي بات يتحول الى حقائق وبات القائمون على إنتاج هذه النفايات وتدويرها مقتنعين بدورهم المهم في تدوير عجلة الحضارة.
في الحرب الأهلية اللبنانية التي اشتعلت شرارتها في منتصف عقد السبعينيات من القرن الماضي والتي كلفتهم أكثر من مائة ألف قتيل ومليون نازح، وغير بعيد عن جذر الجهل الذي ارتكز عليه أمراء الحرب في تقسيم أدواتهم على رقعة الجغرافيا المحترقة، ظهرت فكرة الحواجز التي تتبع لكل فصيل وتجزيء البلاد الى مربعات أمنية، وتروي القصة الشعبية أن عابثاً ظهر من بين الركام ووضع حاجزا أمنيا في مكان ما في بيروت، فكان الجميع يتجنبونه معتقدين أنه يتبع للطرف الآخر، مغامرة كانت جريئة وناجحة لولا أن هذا القزم مع مرور الأيام بدأ يقتنع أن له ثقلا جعل أمراء الحرب يخشونه، فبدأ برفع وتيرة عمليات العنف والنهب على حاجزه، وعليه زادت الضجة حوله، ما استدعى للاستفسار حوله ليتبين أنه لا يتبع أحدا، فكانت نهايته المحسومة بعد أن عرف للجميع باسم «ديك المزبلة»، وهو ذلك الديك الذي يعتقد نتيجة تكرار صياحه أن الشمس تشرق بسببه حتى قال أهلنا من قبلنا: كل ديك على مزبلته صياح!
نحن اليوم نغرق في حالة وهم معرفي، كما وصفها أفلاطون، يقوم عليها أشخاص بثقافة عرجاء يقيمون مراكز بحثية أشبه بحواجز بيروت، فيمكننا القول ببساطة إن حالة الانتفاخ لمجموعة لصوص الدراسات والرسائل والأبحاث المسروقة وما يقدم من الاستطلاعات العبثية ما هي إلا وجه آخر من حكاية ديك المزبلة.