ديمقراطيات بثقوب ملونة

كانت ومازالت الثقوب السوداء من نصيب العرب، حسب تقارير التنمية الإنسانية. ومشاريع الإصلاح والتغيير التي انهالت على العالم العربي خلال السنوات القليلة الماضية، حملت إشارة متأخرة عن أحوال الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان والاقليات. وفي إشارة متأخرة أيضاً، تكشف احداث باريس والمدن الفرنسية عن ثقوب سوداء وملونة في وجهة الديمقراطيات العريقة، ويا له من اكتشاف مخجل في تاريخ عاصمة النور وعصر الأنوار، حيث مهد ثورة الإخاء والمساواة والحرية التي دشنت أول موجة للديمقراطية والحقوق السياسية والحريات المدنية في العالم، وقدمت للبشرية أول الدساتير، وأولى منظومات الحقوق المدنية الحديثة، وأعظم الفلسفات، وأعذب الآداب التي ما انفكت تعلم الناس مبادئ المساواة والعدل.

اضافة اعلان

لقد أثبتت احداث باريس وما تخللها من تداعيات تمثلت بالاعترافات الرسمية للسلطات الفرنسية بأحوال المجتمعات المهمشة، بأن الكثير من الديمقراطيات في العالم تحتاج إلى إعادة تجديد، حسب قاموس الفلاسفة الفرنسيين أنفسهم، بل إن مشكلة العنصرية والاندماج الاجتماعي، التي يقال إن الولايات المتحدة قد استطاعت التخلص منها، تزداد تعقيداً وخطورة في أوروبا، حيث ماتزال المجتمعات التي أنضجت الحضارة الراهنة غير قادرة على التخلص من عقدة المركزية التاريخية، والنظرة الاحادية. وعلى حد تعبير فيلسوف فرنسا الكبير "كلود ليفي شتراوس"، تدور جذور المشكلة حول عقدة التميز بين مجتمعات مطبوخة وأخرى نيئة، بمعنى قدرة المجتمعات على بناء مستقبلها بالتجربة والمراس.

وعلى الرغم من أن اللجوء إلى العنف لا يعدو أكثر من أداة تعبر عن اليأس من التغيير، وهي أداة مرفوضة في كل الأحوال، إلا أن العنف - للأسف - هو الأداة الوحيدة التي دفعت السلطات الفرنسية إلى الاعتراف بالواقع المسمى بـ"الأحياء الحساسة" او "المناطق المهمشة"، والتي تصل نسبة البطالة فيها إلى ضعف النسبة الوطنية، ويصل الفقر في بعضها إلى ثلاثة أضعاف المعدل الوطني. وقد أعلن رئيس الوزراء الفرنسي صراحة عن الحاجة إلى إحداث تغيير داخلي، وبدأت بالفعل سلسلة من الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية، أهمها إنشاء "وكالة وطنية للاندماج وتكافؤ الفرص"، إلى جانب إجراءات أخرى تتعلق بتوفير العمل وزيادة المخصصات وفتح مجالات جديدة في العمل والتعليم والرعاية الصحية. لكن يبقى السؤال الاستفهامي معلقاً: هل تغفر قدرة الديمقراطية على المراجعة السريعة ما تقترفه من أخطاء تاريخية، والتي طالما عجزت أدوات الديمقراطية نفسها عن الكشف عن بواطنها؟

بالفعل، لا تكمن خطورة احداث العنف في فرنسا في امتدادها إلى مدن ودول أوروبية أخرى، بل في كون هذه الأحداث تفتح صفحة جديدة تضيف المزيد من التعقيد إلى العلاقات بين الشرق العربي الإسلامي والغرب الأوروبي، وبالتحديد في هذه اللحظة التاريخية المزدحمة أصلا بالتشابك. وهذه الاحداث خطيرة أيضاً لأنها تقع في فرنسا، حيث اكبر جالية مسلمة في أوروبا، والتي تصل إلى خمسة ملايين، وتزداد الخطورة على هذا الصعيد كون جل هذه الجالية من العرب، لا سيما بالمقارنة مع الجاليات الإسلامية في بلدان أوروبا الأخرى، حيث تنتشر الجالية المسلمة من الأصول الهندية والباكستانية في بريطانيا، والجالية التركية في ألمانيا. أما المصدر الثالث لخطورة هذه الأحداث، فهو محاولة توظيفها في سياق التهم الجاهزة في أجواء المناخ الدولي الراهن.

أحداث باريس وما حولها يجب أن تُقرأ أوروبياً وتفهم فرنسياً، دون أن تتم استعارة قراءات أخرى؛ فالشباب الذين أداروا عمليات العنف والشغب هم الجيل الثالث او الرابع من أبناء وأحفاد المهاجرين الأوائل، وهم فرنسيون في هويتهم، لتبدو مشكلتهم الأساسية متمثلة في انتقاص حقوق المواطنة والتمييز ضدهم. ولربما تدق هذه الأحداث ناقوس الخطر بأن تتحول مشكلة الحقوق والتهميش إلى مشكلة هوية، وهنا تتضاعف احتمالات الصدام وتزداد مساحاته ومستوياته، وتثب القضية الثقافية المرتبطة بمفهوم المركزية الأوروبية التي لا تقبل القسمة إلا على لون واحد وهوية واحدة! وفي هذا المجال، نتذكر بان المرجعيات الفكرية التي حذرت فرنسا من حرائق التاريخ التي تختبئ تحت رماد التهميش والتمييز وأشكال العنصرية وتعبيراتها المتعددة، جميعها هاجرت او لاذت بالصمت، أمثال فرانز فانون وجيمس بولدون وغيرهما، فيما بقيت عقدة المركزية والنظرة غير المتوازنة للآخرين.

وبين مواقف اليمين الفرنسي المعروفة، وتقاليد العلمانية الشفافة التي يمكن مراجعتها في خطاب شيراك العام الماضي حول الرموز الدينية، لابد من التذكير بالتقاليد الفكرية الفرنسية التي حرصت أكثر من غيرها، وعبر أجيال من المفكرين، على دراسة واقع العلاقات ومستقبلها على ضفاف المتوسط، وخلق ثقافة الحوار والتعاون. وفي هذا المجال نسترجع جهود العشرات من المفكرين الذين تناولوا قضية العلاقات الفرنسية - الإسلامية، ومشكلات الاقليات وأزمات الاندماج الاجتماعي والتكامل السياسي في المجتمع الفرنسي. ومن بين تلك الجهود مؤلفات المفكر المعروف جاك فريمو " فرنسا والإسلام" و"افريقيا تحت ظل السيوف"،  وهو الذي يؤكد ان إشكالية العلاقة بين الإسلام وفرنسا لم تبدأ مع الاستيقاظ  المزعوم للإسلام مع بدايات ثمانينات القرن الماضي الذي ضخمته وسائل الإعلام، فالروابط والعلاقات قامت على فكرتي التعاون والتفاهم حتى في اشد مراحل توسع الإمبريالية الفرنسية ومراحل تعاظم قوى إسلام الرفض، وهذا يعني رفض مقولة الاحتكاك المباشر بين كتلتين أحاديتين جامدتين ومتراصتين، وانما بين عالمين هما ذاتهما في حالة حركة وتغير. ويذهب فريمو إلى ان مشكلة صعوبة الاندماج التي يعاني منها مسلمو فرنسا مصدرها الأساسي ديكتاتورية الانتاج الرأسمالي المخدومة من قبل الاقتصاد الاستهلاكي، وهي النتيجة الاكثر موضوعية في تفسير احداث باريس الاخيرة.    

لا مرجعيات فكرية ولا تنظيمية لأحداث باريس الراهنة سوى الفوضى والشعور بالقهر والمذلة. ونستعيد ثورة الطلاب في أيار 1968 وكيف خلقت مرجعيات خلال أيام! إذ اعتاد كبار المثقفين الفرنسيين النزول إلى الشارع منذ أن نزل سارتر وسط صفوف الطلاب، ثم تبعه ميشال فوكو ودريدا وغيرهما في أحداث لاحقة.

بعد ان تراجعت الأحداث بفرض حالة الطوارئ، تبقى الجذور والأسباب والخلفيات  والتداعيات. والأيام القليلة القادمة ستثبت ما إذا كان المهمشون والملونون سيبقون وحدهم دون أن يرتعد لهم جسد الأمة التي أنجبت اعظم فلاسفة وشعراء وفناني العصر، وأعظم حركات التغيير في التاريخ الحديث.

[email protected]