ديمقراطية العدو والجندي الشجاع؟

الشعوب العربية لن تغفر لإسرائيل أطماعها التوسعية، واحتلالها أراضي عربية وفلسطينية منذ نحو نصف قرن؛ وفوق ذلك سرقة مياهنا والاستحواذ على الثروات فوق الأرض وتحتها. كما لن تنسى لها هذه الشعوب بناء جدار الفصل العنصري، وقمعها المستمر لشعب يناضل في سبيل إقامة دولته المستقلة، وممارسة حقه في تقرير مصيره.اضافة اعلان
غالبية الإسرائيليين يعتقدون أنهم "شعب الله المختار"، وأن ما يحق لهم لا يحق لغيرهم. فلا يرمش لهم جفن عندما تخرق بلادهم الأعراف والمواثيق الدولية، ويبررون كل إجراء يستهدف الفلسطينيين والعرب. لكن عندما يتعلق الأمر بمواطنيها وبشؤونها الداخلية وبطقوس الديمقراطية وحرية الإعلام وفصل السلطات، فإن الدولة العبرية تتفوق على سائر دول المنطقة بأنظمتها الشمولية.
سجلّها تجاه الفلسطينيين ومن ورائهم العرب أسود. لكنه أبيض حيال غالبية مواطنيها.
مناسبة هذه المقدمة ما حدث مع الجندي الإسرائيلي شاخار برين (19 عاما)، الذي أُوقف أسبوعا لأنه تجرأ وانتقد علانية ما وصفها بالممارسات العنصرية ونظرة جيش إسرائيل الدونية حيال الفلسطينيين القابعين تحت الاحتلال. انفرد برين بهذا الانتقاد اللاذع خلال مناظرة متلفزة سجّلت في القدس أخيرا، حول تداعيات الاحتلال على الدولة العبرية.
لكن لنتخيل مصير هذا الجندي لو كان يخدم في أحد الجيوش العربية؟
أحد أفراد مهمة البحث والإنقاذ ضمن كتيبة إسرائيلية ترابض على الحدود مع الأردن (الغور)، أوقف بعد أن اتهمه رؤساؤه بالمشاركة في اجتماع سياسي والحديث للصحافة من دون إذن من الجيش. ذنبه أنه كسر حاجز الصمت وقرر حضور أول حلقة نقاشية يعقدها في القدس برنامج "المناظرات العربية الجديدة"؛ وهو منصة تفاعلية بإدارة المحاور التلفزيوني البريطاني المخضرم تيم سباستيان. وقد عقدت تلك المناظرة مساء 14 أيار (مايو) الماضي تحت عنوان "الاحتلال يقوّض إسرائيل".
وقبل انتهاء المناظرة، كان معارضوه من الحضور -جمع من المستوطنين ونشطاء يمينيون- قد أرسلوا للجيش عبر هواتفهم المحمولة "أدلة دامغة": صوت وصورة برين وهو يدين الممارسات العنصرية في الجيش والاحتلال الإسرائيليين للضفة الغربية. هذه الوشاية سبقت بث المناظرة عبر شاشة "دويتشه فيليه" الألماني بخمسة أيام. (بالمناسبة، انتهت المناظرة بتعادل من يعتقد أن الاحتلال يدمّر إسرائيل، مع من يعارض ذلك).
وقف برين ببزته العسكرية ليعارض داني دايان، الرئيس الأسبق لمجلس المستوطنات في الضفة الغربية، والذي كان يتحدث ضد طرح الحلقة مقابل عضو حزب "مريتس" يوري زكي، المدير السابق للمنظمة الحقوقية الإسرائيلية "بتسيليم" في أميركا.
دايان وصف برين بأنه "كاذب" و"مغفل"، حين سرد ما عاينه من حالات إساءة معاملة للفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي. تحرك برين بعد أن استفزّته ادعاءات دايان، الذي أصر خلال المناظرة على أن انسحاب إسرائيل من الضفة الغربية "عمل انتحاري"، وأن تواجد المستوطنين يستند إلى "أسس قانونية وأخلاقية وتاريخية".
نقاش وانقسام؛ جندي عامل ينتقد الاحتلال، وزعيم مستوطنين لا يعترف أصلا بالاحتلال.
لكن، وبسرعة البرق، تحول برين إلى قصة إخبارية تلقفتها وسائل الإعلام المحلية والغربية. منهم من انتقد هذا الجندي ولامه على انتقاد سياسات بلاده ببزّته العسكرية. فيما آخرون شجعوه على كسر حاجز الصمت. الإعلام لم يقف متفرجا، وتجرأ على وضع النقاط على الحروف.
الكاتب والمعلق الإسرائيلي جدعون ليفي لخّص ما حصل للجندي في مقال رأي في صحيفة "هآرتس" المحسوبة على اليسار. انتقد تعامل الجيش مع برين، ورأى أن المؤسسة العسكرية تتصرف بسرعة ووضوح عندما يكون الحدث وفق أهوائها. لكن عندما يقتل الجيش أطفالا فلسطينيين، فإن التحقيق يمتد لسنوات، حتى يغطي الغبّار ملفاته من دون نهاية للتحقيق.
فحين يصور الجنود وهم يرفعون شعارات مسيئة، لا يفكر الجيش بمحاكمة أي منهم. وكذا عندما ينضمون إلى حملة لمؤازرة الجندي ديفيد حنحلاوي من كتيبة نحال، الذي هدّد فتى فلسطينيا ببندقيته، ما دفع مئات من الجنود إلى إبداء التعاطف معه عبر وسائل التواصل الاجتماعي. لكن إذا تجرأ جندي على انتقاد زملائه لأنهم يذلّون الفلسطينيين، يسارع الجيش لإسكاته ومعاقبته، حسبما كتب ليفي عن برين.
ليفي كتب مرارا في معارضة الاحتلال الإسرائيلي ودفع الثمن؛ البعض يصفه بأنه "صحفي بطل"، وآخرون يرون فيه "ناشر دعاية مضادة لإسرائيل".
عودة إلى المناظرة. برين شعر بالاستفزاز حين صنّف دايان إسرائيل في المرتبة 11 على سلم أكثر الشعوب سعادة، متكئا إلى إحصائية أممية، وبذلك يغمز بأن احتلالها للأراضي العربية لم يقوّضها، بخلاف طرح المناظرة.
هنا طلب برين الحديث: "اسمي شخار برين وسؤالي لداني دايان: سمعنا بأن إسرائيل تحتل التصنيف 11 على لائحة الدول الأكثر سعادة. أعتقد أن ما يمنح الدولة معيار أنها دولة جيدة ليس إذا كانت سعيدة أم لا، بل أخلاقياتها وقيمها". ومضى إلى التنبيه: "عندما يتم ترويض الجنود وإقناعهم يوميا بالتعامل من خلال التحكم بالناس وإذلالهم، والتعامل مع البشر على أنهم أقل من البشر، فإنني أعتقد أن ذلك يتسرب إلى عمقنا. وعندما يعود الجنود إلى بيوتهم يأخذون ذلك معهم".
تدخل سباستيان ليسأل برين إن كان يتحدث بناء على تجربة شخصية؟ فرد عليه: "نعم. بالتأكيد. قبل أسبوع فقط عندما تعامل بعض الجنود المسؤولين عن حراسة الحدود بطريقة فظّة مع سياح مسيحيين، قالت لي إحدى زميلاتي إنها لا تصدق ما يقومون بفعله معهم لأنهم ليسوا فلسطينيين". وتابع قائلا: "ذلك الموقف يلقى قبولا في الأراضي المحتلة. أخدم في غور الأردن وأرى يوميا كيف ينظر أفراد من الجيش إليهم وكأنهم ليسوا بشرا متساوين، بل أدنى مرتبة منهم". وخلص الجندي إلى القول: "وعليه، أعتقد أنه عندما يتم العمل على شحن هكذا تفكير، فإنك تأخذه معك أينما تذهب. وهذا يؤثر على المجتمع الإسرائيلي، ويجعل منه -كما قال رئيسنا- أكثر عنصرية".
أثناء استعراض تجربته، علت همسات وتعابير تدلل على امتعاض بعض الحضور. قيل "إنه كذّاب وهو جندي غير مقاتل". ثم ثار دايان في وجهه وقال له: "أنت لست الوحيد الذي يخدم في الجيش. أنا عملت في الجيش وابنتي تعمل فيه... هذه الغوغائية بعينها. أعتقد أن هذا الفتى يكذب".
فقاطعه سباستيان قائلا: "تعتقد بأنه يكذب؟ على أي أساس تعتقد ذلك؟ هل ذلك فقط لأنك لا تحب ما تسمعه"؟ رد دايان: "أتحداه أن يعطي مثالا واحدا عن ضابط مسؤول أعطاه أمرا واحدا لكي يعامل الفلسطينيين بطريقة غير إنسانية". أجاب سباستيان بسؤال مضاد: "ألم تقرأ تقرير منظمة لنكسر الصمت؟". فرد دايان: "هذه المنظمة جزء من حملة منظمة ضد إسرائيل". فرد سباستيان: "إذا برأيك كلهم كاذبون"؟
وسط هذه المجادلة، نهض شاب ليؤيد رواية برين: "خدمت لستة أشهر في الجيش بالضفة الغربية، وكنت شاهدا على عنف ممنهج ضد شعب لا يريدنا أن نحرسه. التحقت بالجيش لأحمي بلدي، لكن وجدت نفسي أطارد مهربي المخدرات من الفلسطينيين، وقمع المتظاهرين، و(وجدت أني) جزء من نظام يتبنى العنف. وعندما يصل العنف لخطوط حمراء، غالبا يتم التغطية على ذلك بدلا من تحويلهم للمحاكم". هنا سأله دايان: "هل بلغت عن حوادث العنف؟". فأجاب الشاب: "نعم".
الملفت في النقاش العلني، أنه رغم سياسات إسرائيل القمعية والاستيطانية المرفوضة والمستنكرة، بما تقّوض قيم وأخلاقيات الإسرائيليين، هناك تجربة دولة تقول إنها محاصرة بالأعداء وتعتمد على دعم الغرب، حال عديد الدول العربية التي للأسف تستغل حال الفوضى التي تعصف بالإقليم منذ مطلع 2011، لترتد على ما تبقّى من الإصلاحات السياسية باسم الأمن والاستقرار.
قصة برين وتصرف الإعلام والجمهور وموقف الجيش، يدل على وجود مجتمع يتجادل ويتحاور فيما بينه، والهدف هو المصلحة العامة، كل كما يراها.
شئنا أم أبينا، فإن في إسرائيل صحفيين ومعلقين قادرين على الجهر بالأخطاء والهفوات، ومساءلة السلطات عن أدق التفاصيل. وهناك أيضا منظمات حيوية تدافع عن حقوق الإنسان وتقرع الجرس لدى حدوث انتهاكات، وتنتقد استمرار الاستيطان غير المشروع والانتهاكات ضد الفلسطينيين.
المؤشرات الاقتصادية والخدمات الصحية والتعليمية طبيعية؛ انتخابات حرة دوريا؛ حرية رأي للمطالبة بأبسط الحقوق، واعتراضات على سياسات الشرطة، مثلا، تجاه اليهود من أصول أثيوبية.
الرئيس رؤوفين ريفلين يتحدث علنا عن عنصرية إسرائيل: "إنها دولة مريضة ونحتاج لعلاجها". غالبية الساسة، بمن فيهم رئيس سابق، أرسلوا للمحاكم وسجنوا. ويبدو أن إيهود أولمرت في طريقه للسجن. وهناك جنود لا يخشون فضح ما يحدث في أوساطهم، بخاصة عندما يستخدم الجيش القوة المفرطة ضد مدنيين عزل. وقبل أسابيع، أصدر 200 من كبار أركان الجيش والأجهزة الأمنية بيانا للشكوى من سياسات الحكومة اليمينية واستمرار الاحتلال.
في العام 2012، صدم العالم حين شاهد فيلما وثائقيا بثته محطة "بي. بي. سي" بعنوان "حراس البوابة". في هذا العمل، اعترف رئيس جهاز الأمن الداخلي (الشين بت) كارمي غيلون، بأن "إسرائيل جعلت الحياة مستحيلة لملايين الفلسطينيين تحت الاحتلال". بينما قال رئيس جهاز "الشاباك" الأسبق أفرهام شالوم: "تحولنا إلى قوة احتلال متغطرسة".