"ذئب وحيد" فلسطيني أم "مجال عام"؟

السؤال الذي يطرح نفسه: إذا قام عشرات أو مئات بفعل ما، فهل يكونون وحيدين؟! وإذا تضامن مع هؤلاء آلاف، أو عشرات أو مئات الآلاف، فهل يكونون وحيدين؟
أبحث في أخبار الصحف الإسرائيلية عن كيفية تسمية الانتفاضة الفلسطينية الراهنة، ولا أجد سوى تعبيرات تتحدث عن قضايا فردية، مثل "أعمال إرهاب". والاسم الأكثر شيوعاً أو قبولاً، في أوساط النخب، هو ما اتخذه مؤتمر عقد بالتعاون بين مركز "هرتسليا" للأبحاث، ومركز أبحاث يدعى "المعهد الدولي لمكافحة الإرهاب"، ومؤسسة كونراد أديناور الألمانية، قبل أيام، عنواناً لمؤتمرهم: "تحدي التعامل مع موجة إرهابيي "الذئب الوحيد"". وهو تعبير انتشر في الغرب للإشارة لأفراد يتبنون أفكارا متطرفة ويقومون بأعمال قتل وإرهاب.اضافة اعلان
إلى ذلك، أعلن الإسرائيليون قبل أيّام عن قرار حكومي بمنح 30 ألف تصريح عمل جديد للفلسطينيين، تضاف إلى 55 ألف تصريح لعمال يعملون في الأراضي المحتلة العام 1948. والهدف، كما جاء في صحيفة "يديعوت أحرنوت"، هو "تخفيف الضائقة الاقتصادية التي تخشى إسرائيل أن تؤدي إلى الإرهاب".
في الماضي، كان إلغاء تصاريح العمل هو العقاب الإسرائيلي على أعمال المقاومة الفلسطينية. والآن، منح التصاريح لتفادي المقاومة!
أحد أسباب هذا التشخيص للانتفاضة؛ بأنها من أعمال "ذئب وحيد"، أنّ القيادة السياسية والفصائل المختلفة، وصولا إلى الاتحادات والنقابات والهيئات الشعبية المنظمة، لا تتبنى مواقف عملية تذكر، أو تقوم بأي فعل بصفتها الاعتبارية للمشاركة في الحدث، ومساندته بطريقة مؤسسية فاعلة. وبقدر ما ينزع هذا الذرائع من بين يد الإسرائيليين لاستهداف هذه الأطر، بقدر ما يدفع الإسرائيليين أيضاً إلى التفاؤل بأنّ هذه "موجة" عابرة يمكن مواجهتها بتشديد العقوبات ضد أهالي الفلسطينيين الذين يقومون بهجمات، واستهداف من يشترك في أعمال المقاومة الشعبية، وتحسين الوضع الاقتصادي لتحسين المزاج العام.
في تاريخ البشرية ظواهر تبدأ بأشخاص ينسلخون عن بنية مجتمعهم، ويرفضون الاستسلام لقيوده السياسية والاجتماعية. وهؤلاء يكوّنون تدريجياً مجتمعا ثوريا خاصا بهم. كانت هذه ربما ظاهرة الصعاليك في الزمن الجاهلي، وهي ظاهرة روبن هود في التراث الإنجليزي. وفي الإرث الثوري الحديث، تستخدم تعابير، أحياناً، مثل "الصعود للجبل" للتعبير عن حالات أشخاص يتركون مجتمعهم للقيام بفعل ثوري. ولم تكن ثورة عزالدين القسّام، والذهاب إلى أحراش يعبد قرب جنين، من قبل عدد محدود من الأشخاص، إلا أمرا شبيها بذلك. وحتى الانضمام للثورة الفلسطينية في الشتات كان يوماً أمرا شبيها بذلك.
لم يصل الوضع الفلسطيني الراهن لمثل هذه الظاهرة، وربما لن يصل، وربما يصل مع تطوير ما، فهناك إرث ماثل الآن يخاف من العمل المنظم الجماعي، ومن الاختراقات والضربات الأمنية، ومن أمراض العمل الفصائلي. لكن الأكيد أيضاً أنّ العالم كله، في عصر العولمة، لديه قدرة على تمكين الفرد، وإيجاد وسائل تواصل تعتمد على الفرد، من دون أن يكون جزءا من شبكة منظمة، أو من تنظيم رسمي. ويوجد نوع من آلية التفعيل الجماعي من دون تنظيم، عبر عملية نقاش عام، أو ما يسمى في علم الإعلام باسم "المجال العام" (Public Sphere)، حيث النقاش المجتمعي يوجه الرأي العام ويحفز سلوكيات معنية. فوسائل التواصل الحديثة، وآليات تمكين الفرد التكنولوجية، تسمح بنوع من المجتمع الثوري المختلف، أو نوع من "الجيل" الافتراضي الذي لا تفلح الطائرات بمهاجمة من يتحصن به، مع التنويه إلى أنّ هذا المجتمع لا ينشأ من دون أسباب سياسية وموضوعية على الأرض.
يمكن التأثير بالمجال العام فعلا. ولكن في الحالة الفلسطينية، فإنّ مسألة مثل الثلاثين ألف تصريح تبدو نوعا من الهروب الإسرائيلي من مواجهة حقيقة الأسباب الحقيقية للانتفاض، وأنّ من يقومون بالفعل المقاوم ينتمون إلى شرائح مختلفة، منها من لم يصل أفرادها سن العمل، ومنهم من يعمل وناجح في حياته الفردية المهنية. ويتناسون أنّ عملية إصدار تصريح العمل، وطريقة التعامل مع العمال، والحواجز التي يمرون بها، وعندما يشاهد جزء منهم، من اللاجئين للمخيمات، أراضيهم وبياراتهم وقد عادوا أجراء فيها، فإنّ ذلك كله عامل حقن واحتقان في المجال العام الفلسطيني باتجاه المزيد من الفعل الثوري، وأنّ الحل السياسي هو الوحيد الممكن.