"ذلك الدين القيّم"

د. محمد المجالي

تأملت كثيرا هذا الوصف لهذا الدين في أول موضع في القرآن في آية الحديث عن الأشهر الحُرُم، ما دلالة هذا الوصف؟ ولماذا جاء في آية الحديث عن الأشهر الحرم؟ فالآية جاءت في سورة التوبة، حيث الحديث إجمالا عن جانبي الإيمان والكفر بأنواعه، فكان الحديث عن أهل الكتاب بشيء من التفصيل عن صفاتهم، وعن الكافرين والمشركين عموما، وعن المنافقين الذين يُظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، وهم الأخطر على الإطلاق، وتحدثت عن المؤمنين وصفاتهم مقابل صفات أولئك جميعا، وتحدثت عن التوبة على المؤمنين عموما، وعلى وجه الخصوص توبة الله على أولئك النفر الثلاثة الذين صدقوا الله في أسباب تخلفهم عن غزوة العسرة (تبوك).اضافة اعلان
ففي آية الحديث عن الأشهر الحرم كان الوصف لهذا الدين بأنه القيّم: "إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض، منها أربعة حرم، ذلك الدين القيّم فلا تظلموا فيهن أنفسكم، وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة، واعلموا أن الله مع المتقين"، فالشهور عند الله يوم خلق السماوات والأرض اثنا عشر، خص الله منها أربعة حُرُم، بأن لا يظلم أحدٌ أحدا فيهن، وهي دعوة للسلم عموما، واجتناب الظلم لأنه مفسدة للعلاقات الإنسانية، ومن هنا جاء الوصف لهذا الدين بأنه القيّم.
يفيد هذا الوصف للدين بأنه شرع الله المستقيم كما ذهب إليه كثير من المفسرين، وفي كلمة القيم من الدلالات ما هو أوسع من الاستقامة، فمعنى الاستقامة حاضر في كلمة (القيّم)، ومعه معاني تدل عليها كلمات القيَم والقيّوم والقِيام والقائم وغيرها، وهي كلها لها دلالات مثل الأخلاق والنهوض والهمة والأفضلية ومتابعة الشيء وغيرها، كلها لها علاقة بهذا الدين الذي أكمله الله تعالى وأتم به النعمة ورضيه لنا.
ولا ننسى العلاقة بين هذا الوصف (القيّم) وما وضحه الله تعالى من نهي عن الظلم، فلا يمكن أن يجتمع ظلم واستقامة أبدا، وهي دعوة قرآنية مبكرة للبشرية أن تدع الظلم والاعتداء على النفس، بل تعظيم حرمات الإنسان عموما، فوجود أشهر حرم فرصة للتفكير والهدوء والعقلانية، إذ معظم ما يقتتل عليه الناس أسباب تافهة، حتى لو كانت دينية، فلو فكّر الجانب الآخر بما هو عليه لوصل إلى أبسط حقوق الإنسان من حرية عامة، وحرية الاعتقاد خاصة، وكذلك المؤمنون لا بد حريصون على تأكيد هذا المعنى، ولكن ليس إلى درجة الارتخاء واللهو عن مقاصد المشركين والكافرين عموما، فهم يمكرون بأهل هذا الدين، ولا يغفلون عن قتالهم، ولهذا قال الله تعالى مباشرة: "وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة"، وشتان بين قتال المسلمين الذي هو في سبيل الله ومن أجل رفع كلمة الله، وبين أولئك الذين يقاتلون تأسيسا للكفر وصدا عن سبيل الله.
يؤسس هذا الدين القيّم لمفاهيم إنسانية عميقة في أهمية مبدأ السلم ومبدأ العدل، وهما سببا الاستقرار والحضارة ومبدأ تكريم الإنسان، وحين يشرّع الإسلام قتال المشركين فهو لا ينقض هذه المبادئ، فهو دين واقعي يخبرنا الله من خلاله بوجود أشرار في هذا العالم، أصحاب مصالح خاصة وهوى، ولا يريدون للبشرية أية كرامة واستقرار وحرية، فلا بد من ردعهم، فالجهاد في مفهومه العام ردع لهؤلاء، فلا يفكّروا في اعتداء، ولا في إعاقة أو مصادرة أن يحصل الناس على حقوقهم التي كرّمهم الله بها، وهذه مسؤولية للإنسان عموما أن يعي هذه المبادئ، ومسؤولية هذه الأمة على وجه التحديد، وهي خاتمة الأمم صاحبة هذا الدين القيّم.
وجاء هذا النص (ذلك الدين القيم) في موضعين آخرين في القرآن، في سورة يوسف: "ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان، إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون"، وفي سورة الروم: "فأقم وجهك للدين حنيفا، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون"، وجاء بصيغة (للدين القيم) بعد هذه بآيات: "فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله، يومئذ يصّدعون"، وكلها مواضع مكية تدل على إفراد الله تعالى بالعبادة والقصد، وهذه بداية الطريق، فلا يمكن أن يكون الطريق قويما وسالكه مشتت الولاء والعبادة.
من يدقق النظر في أوصاف هذه الأمة يجد بأنها تؤدي في النهاية إلى أمة الرشد والحكمة والتفوق، وهذا ما ينبغي أن يستقر في أذهان المسلمين، بعيدا عن مداولة الأيام وتبدل الأحوال، فتبقى الأمة بهذا الوصف لأنها الباقية، وللأوصاف الجميلة التي مُدحت بها.
فهي أمة الخيرية حين تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وهي الأمة الوسط، وأمة الشهادة على الأمم، وهذه بلا شك أوصاف جليلة تؤدي بها إلى المسؤولية والقيام بأمر الله والقيومية على الناس، وتأخذ هذه الأمة مقومات هذه الفضائل والخصائص كونها آخر أمة، وفيها آخر رسول وآخر كتاب، وهذه مجتمعة تشكل –بلا ريب- أمة متميزة راقية، آن لأفرادها أن يعوا حقيقة أمرهم ومسؤولياتهم وقيمتهم الحقيقية بهذا الدين وأهدافه القريبة في هذه الدنيا، والبعيدة حيث الدار الآخرة.
نعيش أشهرا حرما، وهذا موسم الحج على وشك الانتهاء، وعاش المسلمون ويعيشون بمشاعرهم مع حجاج بيت الله الحرام، وكلهم أمل بنهضة حقيقية لهذه الأمة، قوامها الإيمان والأخوّة والفهم لهذا الدين، وإدراك مفاهيمه وأهدافه، فما خلقنا الله عبثا، بل لغايات سامية عظيمة.
الدين القيم يستدعي أتباعا في مستوى عال من الفهم وتحمّل المسؤولية، ولهذا كانت الصراحة في ذكر مبادئ التضحية والجهاد وعلو الهمة والدعوة والصبر والمبادرة، وهذه كلها بحاجة إلى يقين بالله تعالى وحسن توكل عليه، وبحاجة إلى ولاء خالص لله تعالى، فهو ولي المؤمنين، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وإن لم يتحرك المؤمنون بإيمانهم ومبادئهم السامية الراقية، فلا شك إن أعداء لله يجتهدون في فرض باطلهم، فلا بد من دفعهم، وصدق الله تعالى: "ولولا دفع الله الناسَ بعضهم ببعض لفسدت الأرض"، "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهُدِّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يُذكر فيها اسم الله كثيرا، ولينصرن اللهُ من ينصره، إن الله لقوي عزيز".