ذنوب الغرب والشرق

تبالغ تركيا في ردود فعلها على تجاوز الطيران الروسي المحدود لمجالها الجوي، ويتصرف حلف "الناتو" كما لو أن الحرب الباردة في أوجها، بينما الحدث من الزاوية الأمنية والعسكرية بلا أي قيمة. لكنه الغيظ التركي والغربي العميق من التدخل الروسي الذي لا يجدون تجاهه حيلة، فمشروعيته لا تقل عن مشروعية التدخل الغربي أو تدخل تركيا في الأراضي العراقية والسورية لضرب حزب العمل الكردستاني.اضافة اعلان
ربما يضرب الطيران الروسي "داعش"، ولا يستطيع أحد الجزم ما دامت خريطة تمدد التنظيمات واسعة ومتداخلة. لكن المؤكد أن الطيران الروسي يضرب بتوسع فصائل أخرى، مثل "النصرة" (أي القاعدة) ومجموعات أخرى من نفس الطراز. ولا يستطيع الغرب الاعتراض إلا بالادعاء أنه يتم ضرب المعارضة المعتدلة، فتطلب روسيا -بسخرية ضمنية- من التحالف أن يدلها على مواقع الجيش الحر لتمتنع عن ضربه، أو مواقع "داعش" لضربها. هذا هو مأزق الغرب -والعرب أيضا- الذي تستشعره روسيا ويجعلها تتصرف بثقة. فعلى الأرض، لا ندري عن ما بقي من الجيش الحر أو قوة مسلحة وازنة تتبع المعارضة السياسية الوطنية، والفرضية المتداولة أن دول الخليج دعمت في الميدان كل من حمل السلاح ضد النظام، وهم بالأساس المليشيات الإسلامية المتشددة.
المأزق الموضوعي الآن يتمثل في أن "داعش" و"النصرة"، وعشرات بل مئات المليشيات الصغيرة التي تأخذ أسماء وشعارات جهادية سُنّية، هي المهيمنة على الأرض. ولا يكاد يظهر اسم مجموعة وطنية واحدة تجاهر ببرنامج ديمقراطي، وقد لا تجرؤ أصلا على الظهور، إذ يتم سحقها بلا هوادة، وقد تم سحق ما كان موجودا بالفعل. والغرب الآن يكتفي باستهداف "داعش"، لأن استهداف بقية الفصائل يعني مباشرة تقوية النظام السوري وتقدمه في الميدان كبديل وحيد، وهذه ليست سياسة الغرب ورغبته، ولا دول الخليج. ولذلك، يبدو التدخل الغربي تائها بلا سيناريو استراتيجي، ويشاغل الوقت المنظور بضربات محدودة  لداعش، حتى جاء التدخل الروسي الذي سيفاقم مأزق وحيرة التحالف الغربي الخليجي.
السيناريوهات المحتملة تكاد تنتمي إلى عالم السيريالية. دول الخليج قد تقرر مواجهة التدخل الروسي، فتصعّد من دعمها للمليشيات الإسلامية و"النصرة"، وتزودها بأسلحة حديثة فعالة ضد الطيران (وتقول تقارير صحفية إن روسيا وجهت تحذيرا للدول المعنية من مغبة هذا التصرف). وقد تدعم أميركا ذلك إذا قلب التدخل الروسي الموازين لصالح النظام السوري بصورة قوية. وقد يتحول الأمر إلى سياسة معاقبة روسيا بتوريطها الشديد في المستنقع، ولا أداة لذلك سوى دعم المليشيات المتطرفة، تماما على غرار ما فعلته بالاتحاد السوفيتي في أفغانستان، حيث قلبت صواريخ "ستينغر" الأميركية الميزان، وانتصر "المجاهدون" بما أفرز أكثر التنظيمات تطرفا، وفي النهاية سقوط الاتحاد السوفيتي. والذاكرة الروسية لم تغفر للغرب هزيمة أفغانستان، وأسوأ من ذلك استباحة روسيا في ظل حكم يلتسين بالمافيات، وتدمير الاقتصاد والمجتمع الروسيين حد المجاعة. وأظهرت الرأسمالية الغربية قباحة واستهتارا أذلّ الأمة الروسية، وصنع ردّة فعل قومية أتت ببوتين وسلطوية قومية جديدة، وجدت حلفاءها في كل نظام سلطوي يتموضع خارج الهيمنة الأميركية. وعلى طريقة "عدو عدوي صديقي"، تتحالف روسيا مع إيران و"الهلال الشيعي"، وقد نرى غدا شيئا في اليمن. وإذا تقدم النظام السوري أكثر، فقد لا تعود هناك مصلحة مباشرة للغرب والخليج، وخصوصا تركيا، في القضاء على "داعش"، فندخل في لعبة سوداء ومفرغة وغامضة، تحركها مصالح تكتيكية متناقضة.
الكل مذنب، وشعب سورية يدفع الثمن المرعب، ومعه أيضا شعبا العراق واليمن. ولا يوجد بديل سوى مصارحة غربية شرقية حول المصالح والنفوذ، تُشتق منها صيغة مقبولة للتسوية من جميع الأطراف الدولية والإقليمية، يتم فرضها في سورية. وعندها سيكون القضاء على "داعش" مسألة أسابيع.