ذهب عجلون يسلب عقول الأردنيين

لو انطبقت السماء على الأرض، فلن تصدق الأغلبية الساحقة من المواطنين رواية الحكومة عن حفريات عجلون. حكايات الذهب والكنوز المدفونة في الأرض تضرب عميقا في العقل الأردني، وينسج المخيال الشعبي حولها روايات طالما قضى الكثيرون حياتهم في سبيلها، وسلبت عقول من أمضوا الليل والنهار يحفرون بحثا عن الذهب.اضافة اعلان
وما زاد الطين بلة تضارب التصريحات الرسمية حول حفريات منتصف الليل؛ مصادر الحكومة قالت إنها أعمال إنشائية لمعالجة انهيارات قرب طريق إربد-عجلون، ومحافظ عجلون قال إنها تعود للقوات المسلحة. وعندما حضر المواطنون والصحفيون، ومن بينهم زملاء في "الغد"، لم تظهر في الموقع علامات تشير إلى صحة الروايتين.
وبالطبع، لا أدلة أيضا على أن الموقع شهد العثور على عشرات الصناديق الكبيرة المملوءة بالذهب الخالص والتماثيل. وادعى أحد المواطنين العابرين في الليل أنه شاهدها، وحلف أيمانا أنها بطول مترين، ومليئة بالذهب الخالص. لم يسأله أحد كيف عرف ما بداخلها، لكنه عاد موضحا "شافوها وصوروها"، ولم يقل لنا من الذي "شافها" أو صورها، وكل ذلك في الليل!
لم يقف خيال الأردنيين عند هذا الحد، فقد ذهبوا أبعد من ذلك؛ إذ قدروا قيمة الذهب بنحو عشرة مليارات دينار فقط لا غير!
وفي غضون ساعات قليلة، تصدرت أخبار العثور على كنوز في عجلون اهتمام المواطنين على نحو هستيري، وتوارت سواها من أخبار "داعش" وتقاعدات النواب، التي كانت حتى الأمس القريب محور اهتمام الجميع.
دخل النواب على الخط، واشتعلت التصريحات النارية؛ اجتماعات، ولجان تحقيق، وزيارات ميدانية. وتوالى صدور البيانات المنددة بسرقة ذهب الأردنيين.
وحفلت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بتعليقات غزيرة، وسُجلت أرقام قياسية في هذا الشأن. كل صاحب حساب على "فيسبوك" تقريبا أدلى بدلوه، والقاسم المشترك بين كل التعليقات هو تصديق كل ما يقال عن الكنوز، وتكذيب رواية الحكومة، حتى قبل مطالعتها.
واستدعى البعض ذكريات قديمة عن دفائن كان يقال إن شخصيات نافذة تخصصت في الماضي بالتنقيب عنها والاستحواذ عليها، ما دفع ببعض "الفيسبوكيين" إلى الزعم بأن أحد هؤلاء كان موجودا في موقع الحفريات بعجلون!
لم تكن مثل المزاعم سوى هلوسات لا أساس لها من الصحة، تربت عليها أجيال، وتلبست بها عقول عاشت على ثقافة الشعوذة.
بيد أن السجال المحتدم حتى الساعة حول الكنز الموعود يكشف عن أمور تستحق أن نتوقف عندها.
أولها، الانهيار التام في صدقية الحكومات، وعدم الثقة بما تصرح به أو تدعيه. وثانيها، استخفاف الأجهزة الرسمية بحق الناس في معرفة الحقيقة، والتلكؤ في إعطاء المعلومات في الوقت المناسب. ماذا يضير الأجهزة المختصة لو أعلنت مسبقا للسكان المحليين عن نيتها إجراء حفريات في الموقع، وطلبت منهم الابتعاد عن الموقع؟ هي لم تكتف بعدم فعل ذلك، بل أقدمت على تنفيذ الأعمال في ساعة متأخرة من الليل، ما أضفى شكوكا على نواياها.
وثالثها، أن ضيق الحال عند الناس وصل بهم إلى التعلق بأوهام الكنوز والذهب المدفون، أملا في الخلاص من واقعهم المعيشي الصعب. إذ تعكس تعليقات كثيرة مشاعر دفينة، وأحلاما عريضة تملأ قلوب الناس ويأملون تحقيقها حال ما يحصلون على حصتهم من الذهب الخالص.
لم يعد ثمة من يراهن على العمل والعلم والمنافسة لتحقيق الذات؛ لقد تحطمت آمال الناس، وليس من وسيلة لانتشالهم من قعر البئر سوى "لقية" في باطن الأرض تجعلهم من السلاطين في قصص ألف ليلة وليلة.