ذوقان عبيدات يكتب: التعليم والمستقبل

صورة تعبيرية حول ما يحمله المستقبل من تقنيات ستغير مفاهيمنا عن التعليم-(أرشيفية)
صورة تعبيرية حول ما يحمله المستقبل من تقنيات ستغير مفاهيمنا عن التعليم-(أرشيفية)

ذوقان عبيدات *

يختلف الحديث عن التعليم والمستقبل وفق المتغيرات الآتية:

  • هل المستقبل واضح أم غامض؟
  • هل نخطط لمستقبل سوف يأتي أم لمستقبل لن يأتي؟
  • هل نتحدث عن تعليم المستقبل؟ أم التعليم في المستقبل؟ أم التعليم من أجل المستقبل؟
    طبعا إن محاولة الإجابة عن كل سؤال، ستكون بحدود القدرة على تخيل المستقبل أو تخطيط المستقبل.
    1 - المستقبل بين الوضوح والغموض
اضافة اعلان

يقول المتفائلون: إننا نحن من نصنع المستقبل. فما نفعله اليوم هو ما سيشكل المستقبل وفق مقولة "ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره"، ويعتقدون بأن المستقبل من تصميمهم وإخراجهم. قد يكون هذا المنطق صحيحا في بعض المستقبل، فنحن نصنع رؤية ونعمل على تحقيقها، وقد نحققها كاملة أو نحقق بعضا منها.
وهناك من يرى بأن المستقبل غامض جدا، ويستدلون على ذلك أن حاضرنا اليوم: "الذكاء الصناعي" والطباعة ثلاثية الأبعاد، وشبكات التواصل".
لم يكن بالإمكان التنبؤ به قبل سنوات قليلة، فالتغيرات سريعة جدا لا تسمح بأي متنبئ أو باحث مستقبلي بأن يضع فروضاً.
بين الوضوح والغموض، يمكن أن نتحدث عن التعليم، فللمستقبل الواضح تعليم واقعي، وهذا التعليم يعدّ الأجيال لمستقبل سوف يأتي حتما، لكن السؤال: ما هذا الذي سيأتي حتما؟ هل هو المستقبل؟ أم صورتنا عن المستقبل؟ ماذا لو حصرنا المهمة المطلوبة للمستقبل، وأعددنا الطلبة وقتها؟ ماذا لو حددنا مهارات المستقبل؟ وقيم المستقبل ومفاهيم المستقبل، ووضعنا مناهج التعليم وفقها؟ ما يدحض هذه الأفكار هو أننا أمام مستقبل غامض، يصعب التنبؤ بمهاراته ومفاهيمه وقيمه.
الحديث عن المستقبل، يجب أن يكون متواضعا غير قطعي. فإذا كانت اليقينية غير مطلوبة حاضرا، فكيف ستكون مقبولة في المستقبل؟
إذا كان هذا هو التصور للمستقبل، فكيف يكون التعليم في المستقبل؟ لنعد إلى تحديد المشكلة: كيف نعلم أطفالنا ليعيشوا في مستقبل غير معروف؟
لم تواجه الإنسانية مثل هذا الموقف عبر تاريخها، ففي العصرين البدائي والزراعي، كان كل طفل يدرك معظم مهارات عصره، يعرف وسائل الإنتاج، ويعي دوره فيها، ويعمل مع أفراد عائلته لخير العائلة، وحسن عيشها، فكانت مهاراته معروفة، ومن السهل عليه اكتسابها بالملاحظة والممارسة.
وفي العصر الصناعي أيضا، كانت الصورة النهائية لمخرج الطفل معروفة تماما، فالمدخلات تجهز مسبقا، والعمليات تصمم بدقة من أجل الوصول إلى المخرجات المخطط لها مسبقا، وغالبا ما تفتخر الأنظمة التعليمية بجودة مخرجاتها، وكان كل مخرج مدخلا لنظام جديد، وهكذا.. إلخ.
فخريج المدرسة أو الجامعة هو مدخل للعمل، والعمل مدخل للتنمية وهكذا.. ففي هذه الحلقات كل شيء معروف مسبقا، فالمستقبل واضح جدا جدا، لكن ماذا نفعل في مستقبل غير معروف؟
نحن نواجه مخرجات غير معروفة، ومن هنا فإنه يتعذّر علينا ضبط المدخلات وتوفيرها، وتجويد العمليات بتقديري انتهى نظام المصنع: مدخلات – عمليات- مخرجات – وزن نظام المستقبل: مخرجات غير معروفة، ولن تنتج بمدخلات وعمليات معروفة.

2 - تعليم المستقبل، أم في المستقبل، أم من أجل المستقبل؟
يقصد بتعليم المستقبل: أن نقدم تعليما يسمى مستقبليات: ما هو المستقبل؟ ما علاقته بالحاضر والماضي؟ ما أشكال المستقبل؟ سيكون التعليم أحاديث عن المستقبل! وهذا النوع لن يكون سوى مساقٍ في جامعة أو محاضرة روتينية. وكما قيل: الحديث عن التفكير وأنماطه، لا يقود إلى مهارات التفكير، كذلك الحديث عن المستقبل لا يساعدنا في كشف هذا المستقبل.
إن هذا النوع من التعليم يمارس حاليا، ففي الجامعات والمدارس مساقات أو وحدات بين مساقات تتحدث عن المستقبل، وعلى العكس من ذلك في ثقافتنا، المستقبل هو عالم الغيب، وبالتالي لماذا نجهد في البحث عما لا يمكن معرفته؟
والنوع الثاني: هو التعليم في المستقبل، هذا النوع يتعلق بتصميم نظام تعليمي يحدد شكل المدرسة والدراسة والتدريس والمناهج والأهداف التربوية والفلسفة، وأدوار المعلمين ومهامهم والاختبارات وأشكالها. هذا النظام ليس معروفا بعد، وهذا ما يهم المفكرين والباحثين والفلاسفة في البحث عنه واكتشافه، وهذا فعلا ما يستحق البحث فيه، وما سيكون موضوع هذه المقالة.
أما النوع الثالث فهو: التعليم من أجل المستقبل، وهو تعليم يصرف الاهتمام عن الحاضر، بل يضحي بالحاضر المعروف ليعد لمستقبل مجهول، وفي ظل هذا النوع تثار أسئلة مثل: هل نجح التعليم يوما في التخلص من الماضي؟ هل نجح التعليم يوما في تزويدنا بمهارات الحاضر؟
فإذا لم نكن قادرين على تخطي الماضي، فعن أي مستقبل نتحدث؟
وعودة إلى مقولة جون ديوي وأفكار روسو: التربية هي الحياة وليست إعدادا لحياة قد تأتي وقد لا تأتي.

3 - التعليم في المستقبل
لم يسافر أحد إلى المستقبل وعاد ليخبرنا بما رأى، لذلك لا يمكن التحدث عنه بيقين تام، أو وضع محتوى له أو قيمة، أو مهارة، فالمستقبل غير معروف، ومع ذلك ليس ما يمنع من الحديث عن العيش فيه مهما كان شكله، ومن العمل فيه مهما كانت مهنه، فالحياة مستمرة، لكن بمستقبل جديد.
ولذلك أحدد حديثي بما يأتي:

  • لا نعرف مضمون المستقبل، ولذلك لا نستطيع وضع مناهج بمواد دراسية ومفاهيم معينة وإلا كنا مثل البصّارين والمنجمين.
  • المستقبل المجهول قادم لا محالة، وعلينا أن نستعد له، ونتوقع مهاراته وقيمه الجديدة.
  • إن مبادئ العيش في المستقبل يمكن تحديدها، فالمبادئ والقوانين تبقى أكثر ثباتا واستقرارا.
    وبناء عليه، فإن الانتقال إلى المستقبل، رحلة فيها مغامرة وجرأة وتأمل وتصور وتنبؤ وتوقع. وكما قلت: هذه ليست يقينيات، بل أشبه بأطر للمستقبل. فما التعليم المناسب لهذا المستقبل؟

4 - التعليم في المستقبل
من المعروف أن التعليم أكثر الأنشطة الإنسانية استقرارا، فما وضعه سقراط من أسس ما يزال: معلم يتحدث وطلبة يستمعون ويحاورون، وما يزال نمط التربية الصينية وامتحاناتها شائعا حتى الآن، فمنذ أيام كونفوشيوس، التعليم: معلم وكتاب وشرح وحفظ وامتحان، ثم انتقال من صف إلى آخر، ولم تتغير أشياء كثيرة في فلسفة التعليم ونظرياته ومحتوياته، فالبنية الأساسية في التعليم صامدة، ولن نجد فرقا في التعليم بين أشد المدارس تخلفا وأكثرها تقدما إلا فروقا في الدرجة وليس النوع.. معلم، طالب، ومدرسة، ومنهاج، وامتحان، وبيئة تعليم، كل ذلك موجود في كل مدرسة في العالم.
قياسا على ما سبق، واعتبارا لكل التغيرات في قيم المكان والزمان والسلطة والسيادة والأدوات، فإن بالإمكان أن نضع الملامح والمبادئ العامة للتعليم في المستقبل:
1 - تغير مفهوم السيادة، ولذلك ستتغير تلقائيا كل العلاقات المرتبطة بها، فالسيادة كانت للدولة مطلقة، وللمدرسة مطلقة وكذلك للجامعة، أما الآن، فإن كل سيادة صارت منقوصة، حيث يسمح للدول والمنظمات أن تتدخل في شؤون الدول الأخرى، فماذا يعني هذا بالنسبة للتعليم؟ والمدرسة؟
المدرسة ببساطة لم تعد سيدة نفسها، فمن حق الأهالي والمؤسسات المجتمعية والسياسية أن تتدخل في شؤونها، لن نتحدث عن حرم المدرسة وأسوارها وحرم الجامعة، فقد زالت كل الأسوار والمحرمات بعد سقوط سور برلين نهاية القرن العشرين.
إذن: هناك من يتدخل في شؤون التعليم، ولن يبقى التعليم قرارا تربويا، بل قرارا مجتمعيا بامتياز، أو قرارا فرديا للتعلم بامتياز.
2 - إن من أبرز تغيرات المستقبل، هي نقص السلطة، فكلما تقلصت السيادة ضعفت السلطة، ولم يعد بيد من يمتلك السلطة أن ينفرد فيها، أو أن يصدر أوامر بموجبها، فكل صاحب سلطة فقد جزءا كبيرا منها: الأب، الوزير، الشرطي، الحاكم.. إلخ.
لم يعد أحد قادرًا بمفرده على فرض السلطة أو حتى ممارستها دون مشاركة كل من له صلة. وبناءً عليه، فالمدرسة لم تعد تقرر ماذا يتعلم الطفل، وماذا يعلم المعلم وكيف يعلم، فالمدرسة ناقصة السلطة وناقصة السيادة، وأنوّه إلى أن بعض المدارس في العالم تستأذن أهل الطالب بأي قرار يتخذ بحقه.
3 - ضعف قيمة المكان، إذ لم يعد المكان الآمن والقريب والمباشر، هو الوحيد للعمل، ولذلك ستثار أسئلة مثل:

  • هل المدرسة مكان للتعلم؟ ولماذا؟
  • ما أماكن التعلم الجديدة؟
  • ما دور المدرسة المكان إذا بقي لها هذا المكان؟
  • ماذا ستفعل المدرسة؟ وماذا سيفعل معلموها؟
  • ماذا سيفعل الطلبة في ذلك المكان الذي لم يستطع جذب طالب يأتيها حبا؟
    إن ضعف جاذبية المدرسة – المكان- وصرامة ثقافتها وقوانينها، سيعمل حتما في تعديل قيمتها وأدوارها، ولعلنا ندرك جميعا أن قسما من طلاب المدارس في الدول الراقية هجروها للتعلم عن بعد، وأن قسما من طلاب المدارس في بلادنا هجروها للتعلم من السوق السوداء!
    المدرسة المكان بمفهومها الحالي لا وجود لها مستقبلا.
    4 - المدرسة – التوقيت– سيختفي أيضا هذا المفهوم، فالمدرسة لها منتسبون عديدون في كل أنحاء العالم، ولن يكونوا جاهزين في الوقت الذي يقرره أي شخص أو مؤسسة. نقول: فشلت المدرسة ذات التوقيت الموحد في تقديم تعليم متمايز، والتمايز مطلوب في المكان والمدة والتوقيت، وقد لا يكون التعليم حيّا مباشرا بل عبر أفلام أو موجات أو روبوتات. وسيختار طلاب المستقبل ما يحلو لهم في أي وقت، وهذا قد يتيح لهم العمل في أثناء التعلم، أو - على الأقل- يتيح لهم تطبيقات حياتية أو التعلم من الحياة.
    5 - ظهور مهنة جديدة تشمل المعلمين والمعدين والمصممين والمبرمجين والمتابعين والمقيمين والمخرجين والمصورين، يمكن أن تسمى مهنة الاتصال أو التعلم، وهذه المهنة قد ينشأ عنها أخلاق مهنية جديدة، تركز على العمل المشترك وتبادل الأفكار، ولن يكون للعاملين فيها إعداد مسبق أو قرار سيّد، فالكل يتعاون لتصميم المواقف التعليمية وإنتاجها ونشرها.
    وقد يكون الوضع المستقبلي في هذه المهنة على نحو معدّ: معلم يرأس مجتمعات من المساعدين، مصمم، مبرمج، مشخّص، معالج.. إلخ، فكما للطبيب والمهندس مساعدون عديدون، سيكون للمعلم مثل هؤلاء.
    6 - وتكون مهارات المستقبل هي:
  • المرونة وسرعة التغيير، وسرعة التعلم، وسرعة الانتقال في الزمان والمكان.
  • إنتاج ما يحتاج إليه من معارف، فالطالب لن يحتاج دروسا وأفكارا من الآخرين أو عن الآخرين، فهو من ينتج معرفته ويأخذ من غيره ما يحتاج إليه.
  • مهارات فحص المعارف ونسخها وإهمال ما لا يحتاج منها.
  • مهارات إبداع وبحث عن حلول خاصة وجديدة.
  • مهارات إدارة آلات التعلم.
    7 - والمستقبل على الأرجح لن يحفل بأي مناهج هرمية، والمناهج الهرمية هي ما اكتشفه الأجداد والكبار وما تناقلته الأجيال. مناهج المستقبل هي مناهج شبكية تنتج عن تبادل المعارف بين المتعلمين، ونتائج أبحاثهم وتجاربهم ومشروعاتهم. لن يأتي طلاب المستقبل لدراسة أقوال ومعارف وقصص قبل آلاف السنين.
    8 - أما المهارات الأساسية، فسيتراجع دورها كثيرا، فالآلات تقرأ وتكتب وتحسب، دون حاجة إلى تلك العمليات المعقدة. فإنسان المستقبل لا يمتلك وقتا لتعلم الخط والإملاء والقراءة والحساب، فهذه عمليات بدهية لا حاجة لها، ولن يخطئ فيها أحد إذا كان يعرف كيف يستخدم الآلة.
    قد يقول أحدهم: إن من المهم أن يعرف الطفل كيف يفكر بالجمع والطرح والكسور وجدول الضرب – المؤلم– والرد بسيط: قد تستمتع بأكل الوجبة دون أن تعرف كيف أعدت! فليس من شأن الداخل إلى المطعم أن يعرف وصفة الطعام، فله مختص يعرفها.
    ويقول أنصار المدرسة التقليدية: إن الآلة مهمة في الحساب والكتابة، لكن بعد أن يتعلم الطفل العمليات التي تنمي عقله، ولا بأس من استخدامها لاحقا. إن هذا اعتراف بأننا نتعلم لننسى لا لنستخدم. إن كل مهارة لا تستخدم ينبغي عدم تعلمها إلا لذوي المتعة.
    9 - وفي المستقبل، هناك مشروعات لا مواد دراسية، فالدراسة هي مشكلات الحياة، والمناهج سلسلة مشروعات، والمشروع يحتاج إلى تضافر معارف: علمية ورياضيّة وجمالية وتاريخيّة وحركيّة معا. والتركيز سوف يكون على أفعال إنشائية بنائية مثل: نظّم، حلل، برمج، ابن، صمم.. إلخ
    10- والدراسة في المستقبل ستكون دراسة ذاتية، بحيث يعمل الطالب مستقلا بتوجيه من الآلة، ولذلك ستزداد الحاجة إلى خدمات التوجيه والإرشاد، وكيفية اختيار مواد التعلم، والتعامل مع الأهداف المتعددة المستويات، وتنظيم الجولات الميدانيّة.
  • خبير مناهج تربوية