"رأيت رام الله".... ولـم أرَ الوطـن

غلاف  رواية "رأيت رام الله"- (الغد)
غلاف رواية "رأيت رام الله"- (الغد)

ياسـمـين الضـامـن

عمان - تعتبر رواية "رأيت رام الله" أثراً أدبياً مهماً ينقل هواجس اللاجىء ومشاعره بعد العودة، فهي تروي رحلة عودة مؤلفها "مريد البرغوثي" إلى موطنه بعد ثلاثين عاماً من الغربة. وتقدم الرواية رثاءً على العيش في المنفى، إذ بعد انتقاده لزيارة الرئيس أنور السادات إلى القدس تم طرد البرغوثي من مصر، وأجبر على مدى 17 عاما هو وزوجته الكاتبة رضوى عاشور على العيش بعيداً عن بعضهما بعضاً، إذ عاشت هي وابنها تميم في القاهرة، حيث كانت أستاذة للغة الإنجليزية في جامعة عين شمس. اضافة اعلان
وتقدم الرواية تساؤلات في الهوية الفردية، والذاكرة الجماعية، والوطن والحنين. ففي أثناء منفاه القسري، انتقل البرغوثي من القاهرة إلى بغداد إلى بيروت إلى بودابست إلى عمان وإلى القاهرة مرة أخرى. إذ كان من المستحيل الاستمرار في موقع معين؛حيث اشتبكت إرادته مع إرادة "أسياد المكان"- حسب تعبيره- والتي كانت دائماً تنتصر.
يبدأ البرغوثي روايته بوصف عبوره من الأردن إلى الضفة الغربية عبر جسر خشبي متعرج يمتد على نهر مجفف. "خلفه هو العالم. قبله هو عالمه". ولكن عند نقطة الدخول، يبدأ شكه الذاتي بمهاجمته: ماذا يكون؟ لاجئ؟ مواطن؟ ضيف؟ لا يعلم.
يقول البرغوثي في الرواية: "ورائي العالم وأمامي عالمي" الأرض التي أمامه يمكن تعريفها بطرق مختلفة كثيرة: وطنه؛ الضفة الغربية وقطاع غزة؛ الأراضي المحتلة؛ يهودا والسامرة؛ والحكومة المتمتعة بالحكم الذاتي؛ إسرائيل؛ فلسطين. آخر مرة كان هناك، كان كل شيء واضحاً. الآن كل شيء غامض ومبهم لأنه؛ يشعر بأنه غريب: ""الغريب هو الشخص الذي يجدد تصريح إقامته. هو الذي يملأ النماذج ويشتري الدمغات والطوابع، هو الذي عليه أن يقدم البراهين والاثباتات، هو الذي يسألونه دائماً من وين الأخ؟ أو يسألونه وهل الصيف عندكم حار؟"
يجد البرغوثي أن رام الله، وهي المدينة التي عاش فيها طفولته، قد تغيرت؛ فتحولت إلى مركز صاخب من الحياة الحضرية الفلسطينية. ويؤكد ذلك بقوله: "علاقتي بالمكان هي في حقيقتها علاقة بالزمن". ويضيف بأنه في المرة السابقة لم يكن أحد يجادله في حقه في رام الله لكنه أصبح الآن يتساءل عن دوره في حفظ حق ابنه في رؤيتها متسائلاً إذا كان سيتمكن من إخراجه من سجلات اللاجئين والنازحين "وهو الذي لم يلجأ ولم ينزح وكل ما فعله أنه ولد في الغربة؟"
يلاحظ القارئ من السرد أن أحداث العام 1967 جعلت البرغوثي يجزم في ذاته أنه أـصبح مهاناً وبلا مأوى دائم عندما قال: "يكفي أن يمر شخص من خلال التجربة الأولى من الاقتلاع، ليتم اقتلاعه إلى الأبد. قلت لنفسي ماهي استثنائيتها لو لم نكن فقدناها؟ هي أرض كالأرض. نحن لا نرفع لها الأغنيات إلا لكي نتذكر الإهانة المتجسدة في انتزاعها منا. الإهانة تنغص حياة المهانين. نشيدنا ليس للقداسة السالفة، بل لجدارتنا الراهنة. فاستمرار الاحتلال يشكل تكذيبا يوميا لهذه الجدارة."
ويكرر البرغوثي كلمة الغريب في أكثر من موضع، ما يؤكد الشعور بالغربة بعد سنوات طويلة من الابتعاد عن وطنه ومن العيش في المنفى الذي يجبره على الخضوع لإجراءات إدارية لدخول وطنه، فيقول: "الغريب هو الذي يقول له اللطفاء من القوم: أنت هنا في وطنك الثاني وبين أهلك. هو الذي يحتقرونه لأنه غريب أو يتعاطفون معه؛ لأنه غريب والثانية أقسى من الأولى".
تثير الرواية أسئلة يجب الوقوف عندها عن مفهوم الوطن وتدعو إلى التفكير ما هو الوطن؟ هل هو المكان الذي نولد فيه؟ نعيش فيه؟ نجد حريتنا وكرامتنا فيه؟ فيقول: "الآن أمر من غربتي إلى.. وطنهم؟ وطني؟ الضفة وغزة؟ الأراضي المحتلة؟ المناطق؟ يهودا والسامرة؟ الحكم الذاتي؟ اسرائيل ؟ فلسطين؟"
وتعرض الرواية وكيف أصبح اللاجئون الذين ولدوا في المنفى غرباء عن وطنهم جاهلين به "الاحتلال الطويل الذي خلق أجيالاً اسرائيلية ولدت في اسرائيل ولاتعرف لها "وطنا" سواها، خلق في الوقت نفسه أجيالا من الفلسطينيين الغرباء عن "فلسطين" ولدت في المنفى ولا تعرف من وطنها إلا قصته وأخباره. أجيالا بوسعها ان تعرف كل زقاق من أزقة المنافي البعيدة وتجهل بلادها. أجيالا لم تزرع ولم تصنع، ولم ترتكب أخطاءها الآدمية البسيطة في بلادها."
ويتحدث البرغوثي عن دور الاحتلال في أن تتحول فلسطين إلى مجرد رمز هامشي في ذهن الفلسطينيين "كنت دائما من المقتنعين بأن من مصلحة الاحتلال، أي احتلال أن يتحول الوطن في ذاكرة سكانه الأصليين إلى باقة من الرموز إلى مجرد رموز".
ويروي البرغوثي كيف تغير الشوق والحنين للوطن داخله:"حتى في لحظة الزيارة بعد مرور الزمن التي تغزي الواقعيين بالهيام في الغمام الرومانسي لم أجد لدي دمعاً أذرفه على ماضي دير غسانة ولا شوقاً لاستعادتها على هيئة طفولتي فيها". وقد يكون السبب في ذلك كما أشار بأن اللاجىء عندما يتجول في بلدان كثيرة، فإنه لا إرادياً يقاوم فكرة العودة إلى الأماكن التي ترعرع فيها، ولربما يعود ذلك لاختلاف مفهوم الوطن من شخص لآخر، لاسيما عندما يصبح المنفى وطنا؛ إذ تتغير نظرتنا ومفهومنا للوطن، فمعظم الأدباء والفلسفيين يختلفون في مفهومهم للوطن كمحمود درويش الذي اعتبر في بعض أشعاره أن المنفى كان أهم من الوطن حين قال: "من أنا دون منفى؟" أو ادوارد سعيد الذي اعتبر المكان الذي يجد فيه احتراما لإنسانيته وكرامته حتى لو كان المنفى وطناً، حين قال "حرية الفكر وطناً".
وعن مفهوم الاشتياق في الرواية فإنه لا يكون للأشياء بل لذاكرتنا الجماعية التي ارتبطت بتلك الأشياء، فقال :"كنت أشتاق الى الماضي في دير غسانة كما يشتاق طفل إلى مفقوداته العزيزة، ولكنني عندما رأيت أن ماضيها مازال هناك، يجلس القرفصاء في ساحتها، متنغماً بالشمس ككلب نسيه أصحابه أو على هيئة دمية لكلب وددت أن أمسك بقوامه وأقذف به إلى الأمام إلى أيامه التالية إلى مستقبل أحلى وأقول له: اركض!"
"لا غائب يعود كاملاً لا شيء يستعاد كما هو!" يتحدث البرغوثي عن علاقة الانسان اللاجئ بالمكان وبأن ظروف الشتات والاضطرار المتكرر لمغادرتها يدفع الى كثرة الاماكن حتى تفقد الأماكن ملموسيتها ومغزاها. ويقول "كأن الغريب يفضل العلاقة الهشة ويضطرب من متانتها. المشرد لا يتشبث. يخاف أن يتشبث. المكسور الارادة يعيش في إيقاعه الداخلي الخاص.الأماكن بالنسبة له وسائل انتقال تحمله الى أماكن أخرى. الى حالات أخرى."
تشكيل الهوية ليست عملية ثابتة ولا تعطى مرة واحدة بل تمر بمخاض طويل وعمليات تشكل متحولة من فترة لفترة حتى تصل إلى ما هي عليه، وعندما يصل المرء الى شعور بأن الهوية أصبحت ورقة بلا قيمة، فإنها لا تحتفظ بذات الأهمية التي كانت لها سابقاً في داخل صاحبها: "هذه هي الهوية اذاً. هوية لم الشمل. غلاف من البلاستيك الاخضر اللون يضم اسمي واسم رام الله، وكلمة متزوج وكلمة تميم وختما فلسطينيا.لا هذه الهوية ولا حتى جواز السفر الفلسطيني الجديد الذي بدأت السلطة الفلسطينية في إصداره بعد اتفاقية أوسلو سيحل مشاكلنا على الحدود. الدول تعترف على الورق بالهوية الفلسطينية وبجواز السفر الفلسطيني. ولكن على الورق فقط."
أما أفراح العودة وإعادة التوحد مع الوطن، فإنها تختلط بشعور كبير لا يمكن التغلب عليه من الخسارة: أي "الاحتلال"، يسرد البرغوثي بأن أجيالا خلقت منا تعشق حبيبا غير معروف: بعيد، صعب، وتحيط بها الحراس، والجدران، والصواريخ النووية، من قبل الإرهاب محض، وقد نجح الاحتلال الطويل في تغييرنا من "أطفال فلسطين لأطفال فكرة فلسطين". ويعتقد أنه من مصلحة الاحتلال، أي احتلال، أن يتحول الوطن في ذكرى شعبه إلى باقة من الرموز. ومن الواضح أن إسرائيل نجحت في هذا الصدد إذ لم يكتسب الفلسطينيون سوى الرموز دون مضمون السيادة وإقامة الدولة؛ فيقول: "منذ الخامس من حزيران 1967 تركنا لنتدبر أمورنا الحياتية في ظل الهزيمة الممتدة. الهزيمة التي لم تنته بعد."