رحلة مدرسية

هل تذكرون الرحلات المدرسية؟ تُعلن إدارة المدرسة عن رحلة، ويأتي الأطفال بطعامهم ونقودهم، ويمضون إلى مكان ما؛ يغنون ويلعبون ويمرحون.
بماذا كانت تُفكّر والدة الشهيد عروة عبدالوهاب حمّاد، التي غادرت إلى عمّان قبيل الاستشهاد يوم الجمعة الماضي؟اضافة اعلان
لأني كتبتُ سابقاً عن ابن خال الشهيد، ثائر حمّاد، بطل عملية عيون الحرامية في ربيع العام 2002، جاءتني رسالة سريعة على الهاتف: "استشهد ابن جديد لعائلة حمّاد في سلواد". ثم جاء خبر آخر بأنه ابن عمّة ثائر. في 17 تشرين الثاني (نوفمبر) يُكمِل عروة الخامسة عشرة؛ كان عمره عامين يوم عملية عيون الحرميّة.
عندما كتبتُ وزميلة لي، عن ثائر، قبل أشهر، صدمنا عُمق القصة. لم يكن وليد الانتفاضة الثانية، بل هو نتاج قصة جَده الذي أحب الحياة والصيد، والذي التحق أخوه حربي تاركاً الكويت بالثورة، واستشهد في معركة الكرامة العام 1968. والتحق ابنه ربحي بالثورة، تاركاً دبي، وساهم في عمليات كبرى في عمق الأرض المحتلة نهاية الستينيات. وفي كتيب نشره ثائر، نعى عمّه باعتباره شهيداً؛ فهو مفقود منذ العام 1991. ولكن ربحي ظهر في ليبيا بعد سقوط حكم نظام معمر القذافي. وبعد أشهر وترتيبات طويلة، كانت والدة عروة ذاهبة لرؤية شقيقها الذي تمكن أخيراً من الخروج من ليبيا؛ فهل فكّرت بشقيقها الشهيد نبيل الذي استشهد العام 1991 أيضاً، أم فكّرت بابن شقيقها ثائر الذي ثأر لعمه بعد مقتله بـ11 عاماً، أم كانت تفكر بعروة الذي بقي في سلواد؟
"يتأسطرُ" الشهداء، ولكنك تحدث أقرانه وأساتذته وأقاربه، فيحدثونك عن هؤلاء الأطفال الشهداء؛ كيف كانوا يلعبون، ويمرحون، ويدرسون، كأي واحد من أقرانهم، مع بعض النباهة والنشاط الزائد. ويتذكرون بعض لمحاتٍ خاصة. كان من طباع عروة، ابن الصف العاشر، الربط بين ما يدرس وفلسطين. فَيدّرسه أستاذ التاريخ الثورات الأميركية والفرنسية، فيبدأ بالتفكير والنقاش عن أوجه الشبه بفلسطين؛ تماماً مثل طفلة سمراء في السادسة، درست في المدرسة البريطانية عن الهنود الحمر، فجاءت تسأل أباها: "هل يريد الإسرائيليون جعلنا كالهنود الحمر؟"!
يمنع الاحتلال في القدس التضامن مع الشهيد عبدالرحمن الشلودي، الذي دهس مستوطنين بحادث سير. يخبرني شهود عيان أنّ ذلك حدث في مكان يستحيل أن يتعمد فيه دهس أحد لصعوبته، ويفرضون جنازة صغيرة، ولا يعلمون أنّه أصبح حديث كل لسان. ويقف الخطباء القادمون مع الجماعات التي لا تتوقف قادمة إلى نادي سلواد، يُأبّنون عروة والشلودي.
تنظر في النادي؛ حائطه مطلي بلونين من درجات الوَردي، في المنتصف علم فلسطين، وعلم أخضر، وآخر أصفر، ويصطف أبناء القرية؛ قرية خالد مشعل، وابراهيم حامد، وقدورة فارس، وثائر حمّاد، والكثيرون غيرهم، وتأبى أن تتخلى عن جمالها حتى في العزاء. يقف خطيبٌ، والقهوة تدور مع التّمر، ويقول: "يا ابن مدرسة شهداء سلواد"، وظننته يستخدم استعارة لغوية، وتلتقط عيناي إكليل ورد خلف والد الشهيد وأجده من "مدرسة شهداء سلواد الثانوية".
وتشاهد تسجيل "زفة الشهيد"، وتحار كيف تصبح أغاني الأعراس للشهداء. وتمر "الزفة" بطرق تذكرك بعروس حقيقية، سمعت قصة تهريبها لعريسها المطارد بسبب عمليات على هذه الطريق! ويصل الشهيد أمه.
...ويمر بالمدرسة. من الذي قال للفلسطينيين إن الشهيد يجب أن يمر بمدرسته وجامعته قبل مواراته الثرى؟ هل يأتي لمرة أخيرة ووحيدة يصبح فيها أستاذاً حتى لأساتذته؟ ماذا جال في خاطر زملاء صف عروة الذين كان يتقدمهم في رشق مستوطني "عوفرا" المتطرفة، بالحجارة؟ وهم يسمعون الهتاف "يا عروة سّلم على نبيل"؟ هل فكّر ثائر في معتقله أنّ عروة يحمل تحيته لخاله الشهيد نبيل؟ وبماذا يفكر الأولاد وهم يسمعون "لاكتب على الرصاصة عروة هو القنّاصة"؛ هل فكروا بالقنّاص ثائر؟
ثم من الذي قال لهم لنذهب معاً (ليجعلوا رحلتهم المدرسية) إلى المقبرة، ويجلسون حول عروة؟ هل حدّثوه؟ هل أخبروه أنّ "امتحان الشهرين" تأجّل من يوم جنازته الأحد 26 /10 إلى 6/ 11؟
هل يجوز أن يكشف أحدٌ أخطر أسرار سلواد الجميلة؟ سر تراه، ويخيفك منذ اللحظة الأولى، ذلك الوميض في عيون الأطفال، وميض تخاف أن تذكر بعده اسم الطفل...